تتضح يوما بعد آخر، طبيعة الإستراتيجية الأميركية تجاه المنطقة، اذ تكشف استجابة إدارة اوباما تجاه الحدث العراقي، طريقة التفكير الأميركية، بقدر ما توضح الآليات التي تعتمدها في تنفيذ تلك الإستراتيجية، وبعكس ما يقال عن لا مبالاة إدارة اوباما تجاه مصالحها الأمنية والقومية في الشرق الأوسط، واتهامها بعدم امتلاك رؤية واضحة تسير على هديها، يتكشف وجود تخطيط بعيد المدى وإدارة واعية، وإن بتدخلية غير مباشرة، تستفيد من زخم الأحداث وتوظفه في سياق إستراتيجيتها لتظهير منظومة إقليمية جديدة وبيئة مساعدة لتحقيق مصالحها الدولية.
تقوم تلك الإستراتيجية على مبدأ عزل التأثيرات الخارجية، ما أمكن، في عملية صنع القرار والتكتيكات التي تتبعها القيادة الأميركية، بما يضمن عدم الوقوع تحت تأثير حاجة الأطراف الخارجية وأوضاعها الميدانية، وعدم التأثر بالتداعيات الآنية، والعمل على مواجهتها بإجراءات تضمن تحقيق حد أدنى من التوازن الذي يضمن إدامة الحالة الصراعية واشتغال دينامكيتها بالقدر الذي يبقيها في إطار الضبط، أو اقله ضمان عدم انفلاتها بدرجة كبيرة.
تطبيقا لهذا المنطق، جاءت استجابة إدارة اوباما للضغوط التي واجهتها من أجل التدخل في العراق إلى جانب حكومة المالكي، فهي من جهة رفضت التدخل الحاسم بكل أشكاله، ومن جهة أخرى لم تعدم التحرك على خط الأزمة إن على المستوى الدبلوماسي أو حتى على المستوى العسكري، لكن الملاحظ ان المساعدة الأميركية لحكومة المالكي لا تتضمن إمكانية استعادة المناطق التي سيطر عليها خصومه، بقدر ما تتضمن الحفاظ على ما تبقى تحت سلطته؟، وهذه الإستراتيجية تدفع إلى التساؤل عن الأهداف البعيدة لواشنطن، ليس تجاه العراق وإنما تجاه المنطقة كلها، خصوصاً وأن إدارة اوباما تعاملت بالطريقة ذاتها مع الحدث السوري، عندما رفضت الانخراط بشكل حاسم ضد نظام الأسد والاكتفاء ببعض الإجراءات التي تضمن بقاء معارضة مسلحة، بالحد الأدنى، على قيد الحياة!.
ثمة خطان ينكشفان بوضوح في ثنايا إستراتجية واشنطن في المنطقة:
الخط الأول: الاستنزاف، والمقصود به استنزاف القوى الإقليمية والدولية المنخرطة بتفاصيل الأزمة إلى أبعد حد، وهي الإستراتيجية البديلة عن إستراتيجية الاحتواء التي كانت تعتبر أهم الإبداعات الأميركية في إطار السياسة الدولية في القرن العشرين، والتي جرى تطبيقها في مناطق كثيرة من العالم، ودخل في مندرجاتها الشرق الأوسط عبر تطبيقاتها في العراق وإيران في العقد الأخير من القرن الماضي واستمرت مفاعيلها حتى بداية القرن الماضي، وقد قامت تلك السياسة على خليط من الإجراءات الاقتصادية والعسكرية، بقصد إنهاك الطرف الذي يجري احتواؤه ودفعه إلى الاستسلام، غير أن هذا النمط انتهى إلى الفشل واضطرت إدارة بوش إلى شن حرب مكلفة لتفادي ذلك الفشل.
وبما أن ظروف الولايات المتحدة الأميركية، وطبيعة العلاقات الدولية، تغيرت الى حد بعيد بما يجعل من عمليات الاحتواء بشكلها القديم مستحيلة التطبيق، فإن إدارة اوباما لجأت إلى طريقة جديدة في إضعاف خصومها الدوليين، وهي طريقة الاستنزاف، صحيح أنها لم تخترع بيئة وظروف تطبيق تلك الطريقة، ولكنها بالتأكيد عملت على تطويرها بشكل دائم عبر تحريك عناصرها بطريقة تبقيها مشتعلة وفاعلة الآن نفسه، فلا هي تتدخل بالقدر الذي يحسم الوضع لصالح طرف ما ولا هي انكفأت نهائيا وتركت الأحداث تسير وفق طاقتها الذاتية.
الأهداف التي يجري تعيينها في سياسة الاستنزاف، هم الخصوم الذين تتطلب تعديل سياساتهم إجراءات عملانية مباشرة، لذا فإن عملية دوام حالة الاستنزاف تؤمن النتيجة المتوخاة وهي ضعف تأثير وفعالية تلك الأطراف في المجالين الإقليمي والدولي، وقد بدا واضحا في تعامل إدارة اوباما مع الحالة العراقية عدم تصديها للنزوع الإيراني المتجه صوب تعميق الانخراط بدرجة اكبر في تفاصيل الحدث العراقي، حيث لم يصدر عن إدارة اوباما ما يوحي بأن ذلك الانخراط من شأنه التأثير على التوازنات الدقيقة في المنطقة وبالتالي تعريض السلم والأمن فيها إلى مقامرة كبيرة غير معروفة النتائج، والقصد من ذلك إبقاء حالة الاستقطاب بما يستدعي مزيدا من الانهماك والاستنزاف.
الخط الثاني: وهو نتيجة حتمية لحالتي الصراع والاستنزاف، إعادة ترتيب النظام الإقليمي، ليس من ناحية إعادة صياغة تراتبية القوة في إطاره، على ما ذهبت الكثير من التحليلات، ولكن إعادة صياغة كياناته بطريقة جديدة؛ بعضهم وصفها بعملية تقسيم المقسم، أي إعادة تقسيم خريطة سايكس بيكو من جديد، بحيث تجري إعادة بناء الكيانات على أسس طائفية وعرقية، بحيث تصبح هناك دول للأكراد والسنة والشيعة، وكان بعض المنظرين الاستراتيجيين الأميركيين قد بشّر بولادة هذا النمط من الدول في الشرق الأوسط ، باعتباره حلاً لأزمة المنطقة وصراعاتها ولا يتعارض مع مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، حتى أن البنتاغون كان قد كشف خريطة تحمل تعيينات دقيقة لخطوط الحدود بين الدول وقد سميت بحينها حدود الدم!، غير أن ثمة من يرى وجهة أخرى للإستراتيجية الأميركية لا تقوم على ذلك الشكل التقسيمي، وإنما ترمي إلى إعادة ترتيب العلاقة بين المكونات المشكّلة للدول، عبر إعادة صياغة شكل الدولة، بحيث تتحول دول المنطقة جميعها إلى فيدراليات، بما فيها إيران نفسها التي تنطوي على فسيفساء قومية ومذهبية واسعة، على اعتبار أن هذا الشكل، في حال تحققه، يضمن قيام مشاركة حقيقية بين مختلف المكونات ويكون بالوقت نفسه ضامنا لانخراط تلك الدول في أطر السياسة المعولمة نتيجة تخفيفه من حدة النزعات القومية والأيديولوجية بمستوى صناعة القرار.
إلى ذلك الحين، لا يبدو أن ثمة تعديلات ثورية قد تجريها واشنطن على إستراتيجيتها تجاه المنطقة، طالما أن مؤشر خسائرها لا يميل إلى السلب، الأفضل أن تذهب التفاعلات في المنطقة إلى مدياتها القصوى طالما ذلك له عوائد إيجابية تتمثل باستنزاف الخصوم وتركهم يصرفون طاقتهم السلبية تجاهها في حروب لا رابح فيها.