سورية باتت «أكثر أمناً» بعد تخلُّص النظام من كل مكوّنات إنتاج غاز السارين. ماذا عن البراميل المتفجّرة؟… ولو امتلكتها «داعش» أو «جبهة النصرة» أو «القاعدة»، أياً يكن فرعها، هل يبقى الغرب متفرّجاً، متلعثماً كما الآن، فيما يكاد يصدق الوهم الذي باعه للسوريين ليتنصل من دعم المعارضين إلا بالكلام والورود.
وإذا كانت حال مجلس الأمن الكسيح مرآة صادقة لعزوف الأوروبيين والأميركيين عن ابتكار وسائل لوقف فصول الإبادة المسلّطة على رؤوس السوريين، فالفجيعة هي استمرار الإبادة ما شاء النظام، ليلِد سورية مبتورة الأطراف، بائدة الحضارة والتعايش… سورية كما تريدها روسيا وإيران، مجرد ممرٍّ لمصالحهما، وساحة لتصفية الحسابات مع الغرب، ولو بـ «التشبيح».
يقاتل الروس والإيرانيون بدماء السوريين، وبذريعة قطع الطريق على «الخبثاء» الذين يسعون إلى نصب فخٍّ بالفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ليمهّدوا لغارات جوية على سورية. والكرملين الذي تستفزّه نيات واشنطن وباريس ولندن، لأنها «تريد التدخل» باستخدام القوة، لا يجد أي حرج في ما يفعله النظام السوري بشعبه.
مزيد من الاستبداد إذاً؟… الخيار الآخر أمام العرب جهنّم انهيارات الحدود، ليصبحوا بين فكّي إبادة: أنظمة «تشبيح» لا تجد رادعاً، تسوس شعوبها كالقطعان، تفرّخ «داعش» وأمثالها ليكتمل التحالف الأسوَد بأنهارِ دماء. فمَنْ فوق عليه أن يبقى فوقاً وفاء لمن يحميه بالسلاح والمال و «التشبيح»… وإلا كانت تجارة كاسدة.
دُهاةُ التجارة، الصينيون ضمنوا لبوتين الوجه الآخر للفيتو الثنائي في مجلس الأمن، وفيما هو يحرّك خيوط «لعبة» قضم الشرق الأوكراني، من دون استخدام صاروخ واحد، يندفع التنين في بحر الصين الجنوبي، تتحرك أساطيله وهو يشكو «البلطجة» الأميركية.
بالعزف على الوتر الروسي- الصيني، لا يحتاج الكرملين إلى ما هو أفضل من صفقة القرن: غاز للتنين لثلاثين سنة، أما مبلغ الـ400 بليون دولار فيكفي لضمان فصول أخرى من عرض العضلات، ليسلِّم الغرب بموتٍ معلن لنظام عالمي تحتكر أميركا رأسه وشؤونه.
ولكن، هل يُعقل أنّ كل ما يواجهه الغرب بإذلال، ومعه كيانات عربية، هو مجرد فاتورة لخطيئتَي الحرب على أفغانستان وغزو العراق واحتلاله؟ وهل كل الإرهاب والتطرف والعنف في المشرق هو صنيعة الثأر لتدخّل أميركا وإطاحتها حاكماً عربياً؟
أكثر من ذلك، وبصعود نجم إيران، خصوصاً منذُ فتحت ذراعيها للغرب، هل يتحول المثلث الإيراني- الروسي- الإسرائيلي عامل «استقرار» في نظام عالمي جديد قد يقتضي محو حدود عربية (بدلاً من محو إسرائيل)؟
قد يكون في كل ذلك، رثاء لأمة شاخ تاريخها منذ استسلمت لوهم النهوض القومي… بالكلمات. السياسة العربية في أحسن الأحوال تُدار بالنيات، والخطر الإسرائيلي كان أفضل سلاح في جمهوريات العسكر العربية، لتمديد قبضتهم على كل حياة… في محاربتهم راج الإتجار بالدين، فرّخ تنظيمات ودكاكين، بات مهنة، فتلطت الجاهلية المعاصرة بشعارات العدل وحرية الإنسان.
أليست تلك محنة العراق واليمن وبعدهما سورية؟ أليست لليبيا الميليشيات حصة كبرى؟ البداية دائماً حصص الميليشيات والأحزاب في فيديراليات الرعب والقتل.
في رثاء أمة، مفجع أن يتبصّر بعض العرب ويتبحّر في ما آلت إليه أحوال سورية نظاماً وثورةً وحرباً… الكارثة أن يُستنتج بعد سقوط أكثر من 160 ألف قتيل، أنَّ الأَوْلى كان تغيير المجتمع لا النظام. ولكن، ما مبرر الصدمة؟ كانت كل شجون العرب وأزماتهم تدور حول التخلّص من الاستعمار، اليوم بات البطل رغيف خبز!
وهل يُعقل أن تكون حرية في عالم قطباه الاستبداد والإرهاب؟ كيف لخليفة الديكتاتور أن يتشفّى منه بإعدامه، ثم يمشي على خطاه، خوفاً على الوطن؟ ولاية ثالثة؟ فلتكن رابعة، لأن حبل الإرهاب طويل ومواجهته قبل الحرية والخبز.
فلنمشِ إلى صناديق الاقتراع، وإن كان الأمل ضئيلاً باختصارها مواكب الجنازات. حين تتحول الديموقراطية مجرد عملية تجميلية لشرعية ناقصة، كي تمكّنها فتستأسد، أو تكون قمة الخداع والكذب، ألا يجدر ألاّ ننسى إحصاء الشهداء، ولو بتنا نأبى الصُّوَر.
خيار أخير، ربما، ترك المسرح للديكتاتور والإرهابي، ولتهاجر الأمة، قبل الرثاء الأخير.
بين الرفيق والمرشد والديكتاتور، سينهض العالم الجديد على أشلاء بلا هوية.