عودة خطاب “تهميش المسيحيين” إلى الكنائس
خيبة كنسية من السياسيين.. واتجاه للتصعيد
اليوم، اكثر من اي يوم مضى، تتقاطع رؤية البطريرك بشارة الراعي مع سلفه البطريرك نصرالله صفير.
اليوم اكثر من اي يوم مضى يشعر البطريرك الراعي بالاستياء من «تعامل اللبنانيين، وفي طليعتهم الموارنة، بخفة مع لبنان، وكأنه معطى ثابت وتحصيل حاصل غير مهدد بالزوال مهما لعبوا او غامروا او عاثوا فيه فسادا. يتناسون انه ثمرة نضال طويل استغرق قرونا عدة، واختلط فيه مرارا العرق بالدم. ان موارنة اليوم لا يعرفون ان آباءهم اشتهوا ان ترى عيونهم ما يرونه». بهذه الكلمات التي يقرأها اسقف متقاعد من كتاب الزميل انطوان سعد، يحاول ان يلخص عمق المرارة والخيبة لدى البطريرك من سلوك السياسيين اللبنانيين عموما والمسيحيين خصوصا.
خيبة توّجها اسلوب تعاطي القيادات المسيحية مع انتخاب رئيس جديد للجمهورية. لكنها ليست خيبة مفاجئة. راكم البطريرك الراعي الكثير من الملاحظات على سلوك القادة الموارنة وانشغالهم بمصالحهم وحساباتهم الآنية الضيقة. حاول ان يفهم خلفياتهم ويتفهم. وافق بعضهم في محطات، وخالفهم في اخرى. ترك هامشا بين رؤيته للمصلحة الوطنية والمسيحية، وبين الممارسات التي يراها. حاول ان يترجم شعاره «شركة ومحبة»، حتى في المساحة السياسية. افترض ان طرقا متعددة قد تقود الى الهدف نفسه. اليوم بدأ البطريرك يميل الى الاعتقاد ان كثرا من السياسيين، وخصوصا المسيحيين، ضلوا الطريق. لم يقنعه اي تفسير لمقاطعة جلسات انتخاب رئيس للجمهورية. اما إقراره بتأثير الدول على انتخاب رئيس للجمهورية، فحمل في طياته ادانة للسياسيين اللبنانيين.
يحمل الراعي ملفات كثيرة، منها الكنسية التنظيمية، ومنها الاجتماعية الانمائية الى السياسية الوطنية. اولوياته افقية متعددة. لكن موضوعا واحدا اليوم يتقدمها جميعا: انتخابات رئاسة الجمهورية. لهذا اسبابه في فهم البطريرك العميق للبنان والموارنة ودورهم فيه. كان واضحا في ربطه المنصب بالميثاقية التي هي جزء من تعريف لبنان وهويته.
يعتبر الاسقف الماروني ان «الكنيسة وبطاركتها كانوا دائما احرص على لبنان من سياسييه. فالبطاركة الموارنة واجهوا زعماء الطائفة واحزابها حين اغرتهم القوة او اوهام السلطة. انحازت الكنيسة بشخص البطريرك عريضة ضد الرئيس بشارة الخوري حين اراد التمديد. وعارض البطريرك المعوشي كميل شمعون رغم سحره، واقفا ايضا ضد التمديد له. ولم ينحز البطريرك خريش الى الجبهة اللبنانية في عز قوتها ولا فعل البطريرك صفير، سواء حين تجبرت الميليشيات وجن المسيحيون في حروبهم العبثية، أو حين بقي وحيدا في مواجهة الاحتلال السوري. هذا في التاريخ القريب لأسلاف البطريرك منذ استقلال لبنان. اما التاريخ الابعد، فالحديث يطول». يضيف الاسقف: «لم تخسر الكنيسة يوما في انحيازها الى الحق ولبنان. وهي لن تسمح اليوم بأن يخسر لبنان فرادة تجربته بسبب تعنت بعضهم ورعونة آخرين وحسابات صغيرة او مكاسب شخصية او حتى فئوية. تجربة لبنان الرسالة على المحك. وهذه مسؤولية وطنية مشتركة. مسؤولية اسلامية بقدر ما هي مسؤولية مسيحية. لكن الكنيسة لا تزال تراهن اليوم على يقظة عند القيادات المسيحية، ان لم يكن لاسباب وطنية، فأقله من باب تعريتهم امام جمهورهم وأمام التاريخ. على القيادات المسيحية ان تتحمل مسؤوليتها وتبادر فورا للضغط من اجل انتخاب رئيس للجمهورية. فان لم تفعل، فلن تألو الكنيسة جهدا لاعادة التوازن والحياة الى الدولة ومؤسساتها». ويختم الاسقف كلامه بأسى قائلا: «كنا نحيل ازماتنا الى الاحتلالات. وقد شعرنا بالاهانة ورفعنا الصوت حين اعتبر بعضهم اننا قاصرون عن ادارة شؤوننا. لكن اليوم لا اعذار ولا شفاعة ولا مسامحة لمن يعرقل انتخاب رئيس للجمهورية. فهؤلاء يثبتون بالممارسة اننا عاجزون عن ادارة شؤوننا بانفسنا واننا نحتاج باستمرار الى من يمسك بيدنا ويوجهنا، بطبيعة الحال، الى ما فيه مصلحته واهدافه».
هل يعني هذا الكلام ان بكركي في طريقها الى تصعيد من نوع معين؟ يجيب الاسقف ان «الامور مرهونة بالتطورات والتوقيت والاحاطة بكل التشعبات». لكن من يشاركون في النشاطات الكنسية يؤكدون ان العظات في معظم الكنائس لا تخلو من انتقادات للادارة السياسية لجميع السياسيين المسيحيين، كما انها ترفع منسوب الخطاب المعترض على التهميش اللاحق بالمسيحيين جراء القبول بالشغور في منصب الرئاسة الاولى. وهذا ليس بالامر البسيط في خلق رأي عام، يلتف اكثر حول الكنيسة وبطريركها كلما شعر ان السياسة لا تقدم له بدائل جدية: لا في الاشخاص ولا في السلوك.