على مدار سنتين من انخراطه في عملية قتل السوريين، ظل حسن نصر الله أمين عام حزب الله، يفاخر بأن وراءه بيئة مستعدة لضخ آلاف المقاتلين ليساهموا في الكربلاء السورية ذبحاً وتهجيراً، كان الكثير حينها يظن أن الرجل إنما يرفع سقف التحدي في وجه خصومه في ما يشبه الحرب النفسية بقصد دفعهم للاستسلام والإحباط، وآخرون اعتقدوا أنه يعمل على شحن بيئته وتعبئتها ليضمن منحه شرعية التصرف بأبنائهم خدمة للمشروع الإيراني، غير أن ما أثبتته النتائج أن الرجل إنما كان يؤدي دوره في إكمال تظهير صورة الوحش الذي سيصير داعشاً، من خلال، ليس استفزاز السوريين الى أبعد درجة، بل وفرض خطر وجودي عليهم ودفعهم الى استجابة قصووية متطرفة، وليس بهدف إنقاذ حليفه بشار الأسد وحسب، وإنما ليخبر اللبنانيين بعد ذلك أنهم يواجهون خطراً وجودياً.
ليس بعيداً عنه، انهمك نوري المالكي في العمل بالمشروع ذاته، غير أنه ذهب بعيداً وبطريقة مكشوفة ومفضوحة وعلى عجل، على عكس نصر الله الذي اشتغل بحرفية عالية لكن بالمداورة والالتفاف، قام المالكي بفتح مساحات آمنة لداعش، أمّن لها بنية لوجستية وطرق إمداد، زوّد التنظيم بعدة وعتاد وافرين لم يكن يتوقعها حتى في أحلامه، وكان العالم يراقب تلك الرعونة في التعاطي مع الحدث، لذا لم يكن ممكناً تغطيته والتستر عليه بعد كل ذلك.
في دمشق، لم تنقطع يوماً تلك العاصمة عن صناعة المؤامرات، منذ أن تسلم السلطة فيها نظام الأسد، وفي وقت أبكر، ازدهرت في أقبية أجهزتها الاستخباراتية صناعة السيارات المفخخة، وكان ما يسمى جهاز الأمن العسكري قد أنشأ قسماً مختصاً لهذا النمط من المنتجات، تحت مسمى «شعبة الإلكترونيات»، وكان ضحية أولى تلك المنتجات الرئيس اللبناني رينيه معوض والمفتي حسن خالد في قلب بيروت التي كانت حينها تحت سيطرة نظام دمشق، لكن وفي مرحلة لاحقة، سيتوسع نشاط هذه الصناعة ليجري تصديرها الى بغداد وبيروت بكثافة عالية، حينها كان أبو مصعب الزرقاوي «أمير قاعدة بلاد الرافدين» يتجول بين مباني أجهزة المخابرات السورية ويتفاوض حول الدعم اللوجستي الممكن تقديمه والخدمات الموازية، وكان شاكر العبسي قد جرى إنضاجه للعمل في لبنان، وكل ذلك بهدف إدامة النيران مشتعلة في الإقليم وإبعاد أي امكانية للتدقيق في التشبيك التخريبي الحاصل في المنطقة.
وانطلاقاً من خزان الخبرة ذلك، لم تجد دمشق صعوبة في تظهير الجسد الداعشي حين الحاجة له، المادة الخام كانت متوفرة، مئات من السجناء من الذاهبين والعائدين من بغداد ولبنان بمعرفة وتنسيق أجهزة المخابرات، وأغلبهم شارك في اعتصام سجن صيدنايا الشهير، ويؤكد الكثير منهم أن النظام في تلك الفترة زرع أعداداً كبيرة من أجهزة مخابراته بينهم بصفتهم متطرفين إسلاميين وخبراء في العمل الميداني ولديهم بنك أهداف وخريطة طريق للعمل.
وبعد انطلاق الثورة بأشهر، وعندما أدرك النظام أنه لن ينجو هذه المرة بل وستجري محاسبته على كل إجرامه السابق، بالإضافة الى تحريض إيراني اتخذ طابعاً مذهبياً حاقداً، أساسه أن آل الأسد هم من آل البيت ولا يجوز أن تتم إطاحتهم بمظلومية سنية ذلك من شأنه قلب المعادلة التاريخية في المنطقة، لذا لا بد من تشويه الثورة الى أقصى حد ممكن وبكل الوسائل وإسقاط البعد الأخلاقي عنها، فكان لا بد من التشهير بإرهابها وبنكاح المجاهدة واللصوصية وقطع الرؤوس وتهديد الأقليات وتدمير التماثيل بوصفها رمزاً ثقافياً، وهذا العمل لن يقوم به إلا تنظيم على درجة من التطرف وفي ظل مناخ مناسب ومحفز.
ولضمان تطبيق كل هذا السيناريو أخرج بشار الأسد في خريف 2011 مئات من الإسلاميين المتشددين من سجونه، وكان قد اعتقل كل النشطاء المدنيين أو دفعهم للهرب من سوريا نتيجة تعرضهم للملاحقة وخطر التصفية، اتبع في سبيل ذلك القتل تحت التعذيب بكثافة، وبذلك وضع في ذهن الناشطين أن بقاءهم في سوريا هو بمثابة موت مجاني، فيما ضمن، ومن خلال الاختراق الذي صنعه داخل تلك التنظيمات أن أفرادها سيذهبون مباشرة الى ميادين القتال، والمفارقة أن النظام قام بتصفية بعض الإسلاميين الذين أخرجهم من السجن لأنهم استقروا في بيوتهم ومع عائلاتهم وتركوا العمل الجهادي، فيما بدأ الآخرون يشعرون أنه يراقبهم وأن مصيرهم سيكون الموت أو العودة للسجن، وبذلك ضمن دفعهم الى جبهات القتال التي كانت في حينها تئن تحت ضغط قصف الطيران ولا تفرق بين مقاتل وآخر..
لقد كشفت الرسالة التي أرسلها، قبل أيام، ضباط مطار الطبقة، ونشرتها وسائل الاتصال الاجتماعي الموالية، آلية عمل النظام بصناعة الإرهاب وتدمير سوريا وإفراغها من ناسها، فقد توسل الضباط المحاصرون رئيسهم بشار الأسد بعدم ضرب المدنيين في الرقة، ليس رأفة بهم، ولكن لأن داعش لا يمكن الضغط عليها بذات الأسلوب الذي جرى استخدامه في مواجهة الثوار وهو ضرب ما يعتقده النظام حاضنتهم الشعبية، إذ على مدار أربعة أعوام قتل النظام مئات الآلاف من البشر وجعلهم أهدافاً مشروعة له بحجة أنهم الحاضنة الشعبية للثورة، وقد شمل طيف أهدافه أغلب سكان سوريا، من هنا ليس مستغرباً هذا الحجم الكبير من القتلى والمعاقين والنازحين والمهجرين، فالنظام يطلق النار على كتلة بشرية تزيد عن العشرين مليوناً!
لم يكن العالم ساذجاً بالقدر الذي يسمح بتمرير كل تلك التصرفات من تحت عينيه، لكنه كان يقيس الأمور بمنطق المفاضلة والتكامل، وكان يجري محاكماته وفق حساباته ومصالحه، مرة بطريقة انتهازية وعلى قاعدة ليقتل الأشرار أنفسهم بأنفسهم، ومرة بذريعة أن رأيه العام لم يعيد يطيق التدخل في صراعات الآخرين، غير أن الأمور فاضت عن الكيل وخرجت عن كل الحسابات، وجاء وقت إصلاح الأعطاب الحاصلة في جسد المنطقة، أو على الأقل وقف تأثيراتها وعزل المسببات لها.
واليوم يتشكل في المنطقة تحالف دولي بدأت أميركا بتجميعه للتصدي لحالة الانهيار والفوضى، لكن العالم يدرك، وبناء على تجربته السابقة، أنه من الخطأ أن تصب جهوده لصالح المشروع الإيراني وأدواته في المنطقة تلك هي عدة الخراب التي صار لازماً إعادة ضبطها وإخضاعها، ويبدو أن إيران قد تبلغت عبر بعض الكواليس ما يتم الترتيب له في عواصم القرار الدولية، وأن الأمر جدي جداً هذه المرة، لذا سارعت الى الاستغناء عن نوري المالكي ومهندس مشروعها قاسم سليماني وألمحت عبر سفيرها السابق بدمشق حسين شيخ الإسلام الى براءتها من سلوك بشار الأسد؟، لكنها تدرك أنها وضعت على سكة التنازلات التي قد تطال كل الأدوات التي صنعت هذه الفوضى وأن تنازلاتها ستتدحرج لدرء إمكانية تدحرج الحرب التي يُعد لها الغرب في المنطقة، ربما لم يبقَ أمام منظومة إيران وأذرعها سوى القول إننا أُكلنا يوم صنعنا داعش.