IMLebanon

«داعش» منا ونحن من «داعش»

هل كان يجب أن يشهد العالم قطع عنق صحافي أميركي ليخرج الرئيس باراك أوباما عن صمته وتعلو فجأة الأصوات المطالبة بالتدخل الفوري والسريع للقضاء على تنظيم «داعش» في سورية أسوة بالعراق؟

بشاعة المشهد والصدمة التي خلفها تتجاوز دموية القتل وفظاعته إلى قسوة تنقلها وداعة وسكينة ما في وجه فولي. بدا على ملامح ذلك الشاب صفاء غريب قبل أن يلوي عنقه ويقدمه لجزاره من دون أي مقاومة كأنه يساعده على إنجاز المهمة، ويساعد نفسه على تحمل ما هو فيه بأن يسرع تلك اللحظات. وإذ ألبس فـــولي ثـــياب معتقلي غوانتانامو في إشــارة واضحة، وأجــــبر على اتهام إدارة بلاده إتهاماً علنياً بقتله في رسالة أخيرة، بدا أن ثمة شيئاً يخـــرج عن المنطق العام. كأن الرجل بدا مقتــنعاً للحــظة بما يقـــوله وبـــأن ذلك التخلي التام عنه أوصله إلى ما هـــو عليه. لكن إن كانت الأمور على هذه الدرجة من الوضوح، لم قد تجر «داعش» القصف الأميــركي على نفسها؟ هل هو لتشتيت الانتـــباه عن العراق مع يقين مسبق أن إدارة أوباما حسمت أمرها لجهة عدم الانخراط في الوحول السورية؟ هل هو عمل شيطاني آخر من أعمال النظام الذي يفترض أن فولي كان محتجزاً لديه فقام بمبادلته أيضاً لعلم مسبق بمصيره؟ وإذا كان ذلك كله صحيحاً، هل يعني أن الاستجابات الفعلية لا تأتي إلا بعد أعمال عنف صارخ فيبدو أن البحث عن المعتدلين أقرب إلى الرغبة في إجراء الإحصاءات؟

حيرة تتملكنا ولا يبدو أن المنطق أو السوابق التاريخية غير البعيدة قد تفيد كثيراً في تبديدها. لكن المؤكد اليوم هو أن فولي، في تلك اللحظات كان الأقرب إلى الثورة السورية والأكثر شبهاً ببداياتها. فهو مثل ذلك السوري العادي «الطبيب والمهندس والمزارع» بحسب وصف أوباما نفسه في تبريره لعدم تسليح الثورة، مختطف منذ سنتين ومنسي كلياً إلى أن أعادته «داعش» إلى الواجهة وجعلت منه قضية، لا لذاته وإنما لبروباغاندا الرعب التي تنشرها، فلقي المصير البائس نفسه لمئات، بل آلاف السوريين.

هكذا هو فولي اليوم. إنه تلك الطبيبة الشابة التي أعدمت قبله بأيام في الرقة لأنها تقدم العلاج للرجال. وهو ابن عشيرة الشعيطات التي أبيد 700 نفر منها قبل أسبوع فقط ولم يحرك أحد ساكناً، وهو ذلك المصلوب في ساحة عامة والذباب يحوم على جراحه فيما الكاميرات تصوره والسيارات تعبر بمحاذاته كأن شيئاً لم يكن، وتلك المرأة التي رجمت حتى الموت أمام أعين الناس ولم يحاول أحد إنقاذها. إنه كل واحد من هؤلاء مجتمعين ومنفردين، مع فارق إنه أميركي. وقتله بالطريقة التي قتل بها، يحدث فرقاً مثلما تدق لهجة قاتله البريطانية جرس الإنذار في 10 داونيغ ستريت.

هذا وغيره الكثير هو فولي. فماذا عنا؟

منذ عام بالتمام والكمال وقعت أسوأ مجزرة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهي مجزرة الكيماوي. وساد شعور يومها أن تلك القشة التي ستقسم ظهر البعير وتدفع المجتمع الدولي وأميركا تحديداً إلى اتخاذ خطوات فعلية للإطاحة بالأسد ونظامه وتخليص الشعب السوري من بطشه. وبدأ بعض المتفائلين والطامحين يبحثون في تقاسم حصص السلطة الجديدة، لكن من دون أن يقوموا فعلياً بالجهد المطلوب لذلك.

فكان ثمة رغبة دفينة بالتدخل الخارجي، من دون أن يتجرأ أحد للسعي إليه علناً لئلا يحسب ضده. وما حدث عملياً أنه بدأت حملات التخوين من داخل مجتمع الثورة نفسها. فاستعيدت أدبيات رفض الغزو الخارجي، ومنع تكرار سيناريو العراق، وغير ذلك مما يحبط أي عزيمة في التدخل الذي بدا أقرب إلى التورط. فماذا أكثر من سلاح كيماوي استعمل ضد مدنيين للصراخ في وجه العالم ومطالبته بتحمل مسؤولياته تجاه شعب أعزل يباد بسلاح تقليدي ومحظور؟

هكذا تمنع السوريون وهم راغبون. فآثر المجتمع الدولي الضغط على نظام الأسد لنزع ترسانته الكيماوية مع إبقاء شروط «النزاع» الأخرى. لكن ما لبث أن ذهب ذلك طي النسيان واستعيدت بكائيات «الثورة اليتيمة» والقائلة بأن العالم اكتفى بمطاردة آلة القتل وليس القاتل.

وهي للمـــفارقة اللـــغة نفسها التي تستــعاد اليوم في الحديث عــن «داعش». فإذا كان الإفصاح عن الحاجة للتدخل الـــخارجي بات سهلاً وواضحاً وصدر عن أكثـــر مـــن جهة، يبقى أن جوهــر المسألة لا يزال موقع انقسام، ولا يزال الــتدخل الأجنبي مطلباً غير محسوم ولا يحظـــى بإجماع، مقابل سلوك يقول انجدونا مما نحن فيه، أنقذونا من ذواتنا لأنه لا حول لنا ولا قوة. فهل من فكــرة واضــحة لشــكل تلك النجدة المطلوبة؟

فإذا كان سهلاً علينا نحن المراقبين عن بعد التنظير عن القتل الفردي والقتل العام وغير ذلك، ألم يستفز أحد من المارة مشهد امرأة ترجم حتى تلفظ أنفاسها الأخيرة أو شاب ينحر أو يصلب على مقربة منه؟ وإذا كانت تلك «حالات شاذة» ماذا فعل أبناء العشائر حيال 700 قتلوا دفعة واحدة لأنهم رفضوا سلطة «داعش»؟ لا شيء.

لا بل تبين أن القبائل الرئيسة في المنطقة بنت مع الداعشـــيين أواصر تـــعاون وثيق، تماماً كما راح بعض أهل الـــموصل يساعدونـــهم في الاستدلال على جيرانهم مــن الطــوائف الأخرى. هكذا وجد فولي من يبيعه ويشتريه ويقــتله، ومثــله الأب بــاولو، ومثلهما دانييل بيرل الصحافي الذي قتل بالطريقة نفسها في باكستان… هل نسينا دانيل بيرل؟ هل نسينا «الدريل» الذي نخر رأس الصحافية العراقية أطوار بهجت؟

لم تكن «داعش» حينها، كنا نحن. وما لقيه هؤلاء وغيرهم الكثير من الغربيين من حسن ضيافتنا لا يشجع حكوماتهم على مساندة قضايانا. فنحن إن شئنا «إذلالهم» استعنا بهم على طاغية لتنصيب آخر، وإن شئنا إكرامهم سويناهم بأنفسنا ونحرنا أعناقهم…