IMLebanon

داعش» والفصل الأخير من شطرنج الشرق الأوسط

ما قامت به «داعش» حتى اليوم استعراضٌ أوّليّ… والبَقية ستأتي: سوريا والعراق في النار، لبنان يتشظّى، أمّا الأردن فيعيش قلقاً غير مسبوق. وهناك مَن يقول: إذا لم يتبرَّع أحد بحماية الأردن، فقد يسقط نتيجة إصابته بفيروس فقدان المناعة المكتسَبة ضد «داعش»!

إهتزّ العديد من كيانات الشرق الأوسط في «الربيع العربي» (سوريا، مصر، ليبيا، تونس، العراق، البحرين، اليمن…)، وكاد الأردن يهتزّ، لكنّ العرش والحكومة أثبتا قدرةً مدهشة على المواجهة.

وكان العديد من الباحثين يخشون على الأردن أن يكون الحلقة الأضعف وأوّل رأس يتدحرج. فالمملكة الهاشمية ليست كياناً نائياً، كالمغرب مثلاً، بل هي جزء من النواة الجغرافية – الديموغرافية الصلبة في النزاع مع إسرائيل. وكيانات الأردن وفلسطين وإسرائيل تتداخل، ويتعذَّر الفرز بينها في شكل عادل ودائم ونهائي. ولأنّ إسرائيل هي الأقوى، وهي الطامعة بالسيطرة على البقعة كلّها، فالكيانان الآخران يواجهان خطراً مصيرياً.

في حوادث «أيلول الأسْوَد» 1970، نفَّذ الملك حسين ضربة موجعة للعمل الفدائي الفلسطيني في الأردن. وربّما دفَعَه إلى ذلك شعورُه بالقلق الوجودي، فيما كانت تَندلع الشرارات الأولى للحرب الأهلية اللبنانية، بفتائل فلسطينية.

ومُذّاك، انخرَطت مصر والأردن والفلسطينيّون في معاهدات علَنية مع إسرائيل، فيما الكثير من العرب الآخرين تفاوَضوا أو تفاهموا معها سرّاً. وبفضل النموذجين، العلني والسرّي، حافظت الأنظمة على ديمومتها والكيانات على استقرارها. وحدَه لبنان دفع الثمن اقتتالاً أهلياً واحتلالات ووصايات، لأنّه لا عرِف الطريق إلى المعاهدات العلنية ولا اهتدى إلى الخطوط السرِّية.

اليوم، اختلفَت المعايير. فـ«الربيع العربي» مدخل إلى المرحلة النهائية. ولم تعُد إسرائيل تكتفي بالمعاهدات والتفاهمات، لأنّها تريد الذهاب بالمنطقة إلى خيارات نهائية. وهي لا تريد من الفلسطينيّين والأردنيين أوّلاً، ومن السوريين والمصريين واللبنانيين ثانياً، أن يعترفوا بوجودها فحسب – فهذا الاعتراف حصلت عليه – بل أن يبرموا معها صفقة التنازل الأخيرة.

في ظلّ الوطنية الفلسطينية التي مثَّلها ياسر عرفات، والكيانية الأردنية التي يمثِّلها العرش، يستحيل على إسرائيل فرز النواة الصراعية الصلبة، الطامعة بالسيطرة عليها، وإقامة الكيان الصافي دينياً وثقافياً والمُريح أمنياً واقتصادياً. ولذلك، زُرِعت التيارات المتطرّفة والجهادية التكفيرية كخَيار مضمون لقتلِ الروح الوطنية وشرذمةِ الكيانات دينياً ومذهبياً وعرقياً، ما يُسهّل تصفية القضية الفلسطينية نهائياً.

مثلاً: هل القدس تراب وطنيّ فلسطيني أم هي عاصمة للديانات السماوية ليس إلّا؟ وهل نهر الأردن هو أرض وطنية أم هو مجرّد جزء من التراث المسيحي العالمي؟ لماذا أصبح المسجد الأقصى عنواناً أوّل للنضال، فيما كانت القدس، كتراب وطنيّ حاضن للمقدّسات، هي العنوان الثوري الفلسطيني؟

لقد تمادَت قوى إسلامية في التصرّف بما يتلاءم والخطّة الإسرائيلية، ولو عن غير قصد، عندما أعطت النزاع الوطني الفلسطيني طابعاً دينيّاً. فهي في ذلك تنكَّرت لمناضلِين فلسطينيّين كبار، غير مسلمين وغير إسلاميين، واغتالت تراثاً من النضال الوطني الفلسطيني عندما حوَّلته جهاداً دينياً لتحرير «مقدّسات إسلامية» من أيدي «غزاة يهود».

وتُمثّل «داعش» نموذجاً فاقعاً لهذه القاعدة. وهي إذ تستخدم العنوان الديني لجَذب الجماهير، تُفكِّك المجتمعات الوطنية وتزيل الأنظمة والخرائط. وأساساً، لا تعترف التيارات الإسلامية بالدول والكيانات، بل بدولة الخلافة.

ولذلك، فإنّ «داعش» تتقاطع وتتصارع، في الآن عينه، مع مصالح إسرائيل. وربّما المطلوب هو إنجاز المساومة النهائية بين أصحاب «دولة الخلافة» وأصحاب «الوطن القومي». وقد ينتهي الطرفان بتقاسم الأرض، بعد أن تعوم بالدماء. والكلمة هنا للأقوى، أي لإسرائيل. وثمّة مَن يعتقد أنّ «داعش» هي الأداة التنفيذية المكلَّفة تنفيذَ الفصل الأخير من لعبة الشطرنج الشرق أوسطية.

وهنا، يكمن الخوف من الحراك «الداعشي» في الأردن وفلسطين. والأنكى هو الأساطير المتداوَلة، والتي توزّع التطمينات إلى أنّ الولايات المتحدة وإسرائيل هما اللتان ستسارعان إلى «حماية» الأردن من «داعش»!

فهل اقتربَت الساعة التي يتهدَّد فيها دور الأردن ككيان وطني، لتنشأ كيانات فدرالية فلسطينية – أردنية تخطِّط لها إسرائيل منذ زمن بن غوريون؟