IMLebanon

«دراسات التابع» اللبناني

ربما بات علينا في لبنان الاهتمام بتطوير «دراسات التابع» لفهم أفضل لآليات السياسة والاقتصاد السائدة هنا، ذلك أن الواقع يشير إلى تجاور عدد كبير من التواريخ أو السرديات المعزول بعضها عن بعض والمناقض بعضها للآخر.

من يتابع وسائل الإعلام اللبنانية يخرج بانطباع أن الانتخابات الرئاسية يجري التحضير لها في ظل موازين القوى المحلية وأن «الأقطاب» يختارون اسم الرئيس المقبل. لكن للواء رحيم صفوي، المستشار العسكري لمرشد الجمهورية الإيرانية، رأي آخر. فبلدنا هو حدود إيران مع إسرائيل. زميل صفوي، اللواء همداني، أبلغنا بتصريح سارعت وكالة الأنباء الإيرانية التي نشرته إلى سحبه بعد ساعات، إن سورية، بدورها، تخضع للانتداب الإيراني وإن 130 ألفاً من قوات التعبئة «الباسيج» سيتوجهون إليها.

كيف السبيل إلى مواءمة العملية الانتخابية التي يفترض أن تسفر عن اختيار رمز للسيادة الوطنية والحفاظ على الدستور في مقاطعة حدودية إيرانية؟ لا جواب.

عند «التابع» اللبناني رواية أخرى للواقع. هو أولاً «تابع» لتحالف من قوى داخلية وخارجية مهيمنة ومتسلطة. ويتحدث عن أزمة اقتصادية واجتماعية طاحنة تلامس فيها مؤسسات الدولة حدود من التوقف عن العمل، ليس فقط المدارس الحكومية الأكثر تعرضاً للإهمال حيث لا تعتبر الدولة تعليم أبناء الفقراء واجباً ملحاً، بل أيضاً في كل ما يمكن أن يوصف بالمجال العام. يجري ذلك في ظل اكتظاظ غير مسبوق آيته استمرار تدفق اللاجئين السوريين الهاربين من الحرب الأهلية في بلدهم والذين لا يجدون مكاناً يقيمون فيه غير المناطق الأكثر فقراً وحرماناً في لبنان. جل ما يهم الهيئات الدولية من مأساة اللاجئين السوريين هو ألا تنتقل عبر الحدود إلى أوروبا أو غيرها.

هذه السردية لا تظهر على الرادار السياسي اللبناني، وهو ما يبرر الحديث عن روايتين منفصلتين للواقع. واحدة علنية مقروءة في الصحف والإعلام عن اتصالات ومشاورات وأجواء، تقدم لبنان كبلد يصنع حاضره ومستقبله بأيدي نخبه السياسية المدركة للمصالح الوطنية. وثانية، تدور أحداثها في الشوارع والبيوت الصغيرة وأمام مقرات توزيع بطاقات التموين التي توفرها هيئات محلية وعربية قليلة، على اللاجئين وتظل من دون تسجيل أو توثيق.

والحال أن المجموعة السياسية اللبنانية، استفادت دائماً من هذا الانفصال بين الواقع الذي تعيشه الشرائح الأعرض من اللبنانيين وهو واقع لا يبدو أنه يتحرك إلا نحو الأسوأ، وبين الفقاعة التي يعيش وينشط السياسيون داخلها والمستمدة أسباب بقائها من خداع المواطنين من جهة ومن الالتحاق بالقوى الإقليمية والدولية المتنفذة، من الجهة المقابلة.

«هل يستطيع التابع أن يتكلم؟» هو السؤال الشهير الذي طرحته الكاتبة الهندية غياتري سبيفاك في دراسة لها بهذا العنوان. حتى اليوم، لا يبدي «التابع» اللبناني علامات اعتراض عميق على الضائقة التي تحاصره من الجهات كلها، على رغم احتجاجات مطلبية ونقابية عدة. بل الأقرب إلى الصواب أن هذا «التابع» لم يطور بعد لغته وما زال أسير التلاعب الطائفي الغريزي الذي تمارسه النخبة الحاكمة، إلى الحد الذي يستطيع أنه يعبر بها عن رفضه هذه التبعية المشينة.

يدفع الأسر المذكور اللبنانيين إلى البقاء صامتين عن معاناتهم الحقيقية والعميقة وعن انسداد آفاق المستقبل أمامهم وإلى السعي لنقض ما تقوله الرواية الرسمية القائمة، على رغم إفلاسها. عليه، تنهض ضرورة صوغ لغة جديدة تحمل رواية «التابع» لواقعه وحياته واضطراه إلى التأقلم مع بلد يخضع لأنواع شتى من الاحتلال.