ـ 1 ـ
.. وعلى قدر الصمت والتواطؤ كان السقوط: فالعرب انتظروا بعد الاستعمار دولة خلاص وطني… وعندما فشلت في هزائم حربية وقبلها في «الانقلاب» على أحلام الشعوب في دول حرة تمنحهم الأمان والتقدم، استبدلت النخب العسكرية والسياسية الملتصقة بها هذا كله بحروب تثبت بطولتها واستحقاقها الفرساني للسلطة.
ومن هنا بالضبط احتاجت تحالفات الحكم إلى التكوينات القديمة، بقبائليتها أو طائفيتها أو عشائريتها، وغطت كل ذلك بحرب هوياتية من أجل زرع هوية سلطوية واحدة…
لم تعد جمهوريات خلاص، لكنها دول استبداد «شرقي» باسم الخلاص… ولا مانع عند هذا الحكم من التحالف مع الشيطان/ كل شيطان ليستمر الاستبداد ما دامت راية «حرب الخلاص» مرفوعة وفي سبيلها تصمت الشعوب أو تتكيّف مع مصيرها…. وكلما كان الصمت مطبقاً والتكيّف يصل إلى إلغاء الذوات أو العيش في كبسولات الرعب، كانت الدول تسير إلى سقوطها الوحشي الذي نراه بالتدريج أو دفعة واحدة… ومن دون أن يلحقنا التكيّف أو التآمر على الذات لمصلحة تلك الرسالة الخالدة، التي لم نعرفها ولم تكن سوى «سيطرة نخبة قادرة على التلوّن لكن ليس لديها أدنى رغبة في التنازل سنتيميتراً واحداً عن فضاء السلطة…
ذلك الفضاء الذي لا فضاء غيره».
ـ 2 ـ
الصراع إذن على سلطة الخراب…
لا أحد يرى الأيام التي نعيشها من زاوية «كيف ستكون الحياة؟» أو «كيف سنرتب العلاقة بين المجتمع والدولة لتشبه الدول مجتمعاتها؟… لا أحد يرى كل ذلك فصانع الخراب هو من سيقودنا في رحلة «البقاء أحياء» رعباً أو خوفاً من «خراب أكثر أو دمار نراه كل يوم على الهواء»، في ميديا «داعش» المذهلة في دعايتها عن «أعلى قدرة على خراب الإنسانية» أو «نحن نقدّم توحشاً لا يفوقه توحّش آخر..» أو «إجرامنا معلن ونفخر به… بعد سنوات من إجرام مستتر تديره القوى الخفية التي تحكم بما تستطيعه من إثارة الرعب..»…
الـ«داعش» بداخلنا أو بالقرب منا أو هو قرين حكّام دمّروا كل مجال حيوي/ فضاء سياسي/ وتركونا في صحراء ننتظر الوحش الذي أحضروه وربما أتى بصورة هوليودية.. لكنه أتى حين بدأ سقوط الطغاة أو ارتفعت درجة الأحلام في التخلص منهم إلى درجة أعلى قليلاً من غضب المجالس أو همهمات الجسارة على قارعة الطرق…
الوحش الذي أتى ليكون فزاعة الهاربين من الاستبداد يبدو اليوم مؤثراً في «المستقبل» كما لم يكن من قبل… فالسلطات التي بنت شرعيتها على مقاومة «الوحش» تمهّد الطريق إليه، أو تلعن هشاشتها قبل أن يصل حدودها…
ـ 3 ـ
وماذا لديكم لتقاوموا الوحش؟
هل أصبح المستقبل رهن التخلص من «داعش» و«آكلي الدول» كافة؟ هل اختفت «فسحة الأمل» للأبد..؟
الوضع أكثر تعقيداً من الحرب الجانبية أو الاستقطاب المقيت بين أعداء الماضي، بملابسهم الجديدة في جولة من حربهم القديمة. التعقيد هنا في تعدّد المطلوب لعبور تلك اللحظة الفارقة ولكي لا ننتقل من «خراب» إلى «خراب أكثر أناقة» فلا قوة ولا تيار ولا نخبة ولا طبقة سياسية لديها حق في السيطرة على المستقبل.. إلا إذا كان ذلك يعني «هدنة مؤقتة» مع السقوط… كما أن التركيبات السياسية والاجتماعية لم تعد تحتمل «خراباً أكثر»، ولهذا فلن تتمكّن من تقديم حلول ولا هدنات «مؤقتة أو دائمة». وهذا يعني خروجنا من النفق إلى المتاهة، والرضا بالحياة كوقت مستقطع في حفلات اللطم والندب الطويل…
هل يمكن أن نفكر بعيداً عن «ترميم المكسور» أو كما تروّج ميديا السلطة في مصر: «.. أليس أي شيء أفضل من مصير سوريا وليبيا والعراق»، وبرغم أن مصر لا تشبه واحدة من هذه الدول في تركيبتها ونسيجها وهندستها إلا أن «التحذير من التغيير بنماذج السقوط والرعب» هو مصير تعس… وربما تكون معاندة التغيير أو التحايل عليه بألاعيب «أليس أفضل..» هو تحضير لرعب أكبر سوف يأتي..؟
المهم أن الصمت أو التكيّف هو الطريق إلى السقوط… و«داعش» لم تسقط من سماء، ولا التحالف الدولي الذي سيغادر مواقعه ليحاربها يختلف عن «العالم» الذي يحارب أنظمة تستعيد «جمهوريات الخلاص» بكل ما تمتلكه من صفاقة وقدرة على تقديم إعلان عن «الخراب» من دون أن يدرك المشاهدون أنه «الخراب» ذاته الذي ينتظرون.