الرواية القصيرة المعبّرة التي اخترتها كمقدمة لمقالتي اليوم، ليست جديدة، لا على السمع ولا على القراءة، بل هي معروفة من ملايين البشر ويتم التندّر بها، والاستعانة بمضمونها، للتعبير عن الهوة السحيقة التي تفصل في كثير من الدول، بين المواطن والحاكم، خصوصا عندما يكون الحاكم بعيدا عن هموم المواطنين واوضاعهم وحاجاتهم واوجاعهم، كما هو الوضع القائم اليوم في لبنان، بين المسؤولين والشعب.
وقفت ماري انطوانيت ملكة فرنسا امام نافذة قصرها تستطلع اسباب الضجة التي ايقظتها من نومها، فلمحت اعداداً من الفرنسيين يركضون في الشوارع وهم يصيحون فسألت احد خدامها عن السبب، فقال لها: انهم جائعون يا مولاتي، ولا يجدون خبزا، فأجابت بلهجة المندهش و«البريء»: «ليش ما بياكلو بسكوت».
خطرت على بالي سريعا هذه الواقعة الحقيقية، وانا استمع الى النائب محمد قباني، وهو يعلّق على ازمة المياه التي يواجهها لبنان، بسبب لا مبالاة المسؤولين، وعدم كفاءتهم، وعدم تحسبهم ومتابعتهم للتغير المناخي الذي يضرب الكرة الارضية، وفي شكل خاص منطقة الشرق الاوسط، ففجأتني نصيحته للمواطنين بالاستحمام مرة واحدة في الاسبوع كما يفعل الفرنسيون وليس مرتين في اليوم كما يفعل الاميركيون، من ضمن النصائح والارشادات الاخرى التي ساقها، لتوفير ما امكن من مياه، ولا استبعد في حال اشترت الازمة، ان ترتفع اصوات المسؤولين، طالبة من الناس الاكتفاء بجرعة ماء واحدة في اليوم، وتدبير الحال ببلع ريقهم بانتظار الجرعة الثانية.
وزاد تخوّفي ان يلتقط الوزراء الآخرون، عدوى هذا النوع من النصائح من النائب قباني، كأن يطلب وزير الطاقة، العودة السريعة الى الشموع و«اللوكس» بديلاً عن الكهرباء، وان يطلب وزير النقل اعادة تشغيل عربات الخيل والبغال، اذا تعذر شراء المحروقات بسبب ازدياد الفقر والفقراء، وان يقفل وزير التربية المدارس والمعاهد، واحياء تراث التدريس تحت السنديانة، لأن الاموال عند وزير المالية غير متوفرة لصيانة المدارس، ومجلس النواب لا يستطيع التشريع قبل انتخاب رئىس للجمهورية، وان يناشد وزير الداخلية اللصوص والحرامية والخاطفين من اجل فدية، دفع نسبة معينة لخزينة الدولة ليتم تشريع اعمالهم وقوننتها، وهكذا دواليك الى باقي الوزراء، وكل وفق وزارته واختصاصه.
****
صحيح، انها صورة كاريكاتورية، لوضع مأسوي، بمرّ به لبنان، هو الاصعب في تاريخه، ولكن الدولة ايضاً، تتحول بسرعة ضوئىة الى دولة كاريكاتورية، وفي بعض جوانبها كرتونية، حيث لا ماء، ولا كهرباء، ولا عمل، ولا انماء، ولا سيّاح، ولا أمن، ولا استقرار، ولا معاشات، ولا رئىس جمهورية، ولا مجلس نواب، ولا شعب، بعدما اصبح عدد الغرباء على ارض لبنان ثلاثة ملايين نسمة ونصف المليون، ومع ذلك، ومع كل هذه التعاسة، ما زال بعض رجال السياسة والمسؤولين، يتغنون بالوضع الممسوك، وبالاخوّة والشهامة العربية، في حين يعيش البعض الآخر في كوما الطروحات غير المعقولة، والمبادرات غير المقبولة، والتطمينات التي لا تصرف في اي مكان، والمناورات التي تزيد الاوضاع تعقيداً فوق تعقيد، وكأن الهدف الاساس من كل هذا النزف المقصود، تحويل لبنان كله، دولة، وارضاً وكياناً، ونظاماً، وشعباً، الى تفليسة، او فريسة جاهزة للابتلاع.