لو كان اللبنانيون ينتخبون رئيساً للجمهورية اللبنانية فقط لانتخبوه في جلسةٍ واحدة، لكنهم يَنتخبون رئيساً لاصطفافاتِـهم الداخلية ولمحاورهم الخارجية. هكذا يلتقون جميعاً، على رغم اختلافاتهم، على صِنفِ رئيسٍ يُــبقي لبنان في أَسْـــرِ المحاور المذهبية والسياسية والعسكرية العاصفةِ بالعالم العربي وآسيا الصغرى والوسطى، أي على رئيسٍ مناقضٍ “لإعلان بعبدا”، بل لجوهر وجود لبنان القائم على الحياد.
الواقع أنّ قوى 8 آذار لا تسمح مبدئياً بوصول رئيسٍ من قوى 14 آذار، وهذه لا تسمح بعدُ بوصول رئيسٍ من تلك، والفريقان لا يَــقبلان برئيس من خارجِ دوْحـتيهما. ولأن كل فريق عاجزٌ عن إيصال مرشّحِه العلني أو المضمَر، يتحوّل المرشحون خطوطَ تماس، ويتمّ ترحيلُ الاستحقاق إلى أن تنجلي موازينُ القوى عن رجحان كفة محور خارجي، أو إلى حين تُــنجَز التسويات الإقليمية والدولية. هذا يعني أن الاستحقاق الرئاسي ليس حلقةً من مبدأ تداول السلطة داخل النظام اللبناني بقدر ما هو حلقة من الصراع على الدولة اللبنانية بين الأنظمة الإقليمية والدولية.
لقد بات انتخابُ الرئيس اللبناني الجديد جُزءاً من ولادة الشرق الأوسط الجديد، لا استمراراً لولادة لبنان منذ أربع وتسعين سنة. إنه ربطٌ مميت لسببين على الأقل: 1) ولادة الشرق الأوسط الجديد مسألة عقود لا سنوات. 2) والخريطة المشرقية الجديدة تهدد الكيانَ اللبناني بالتفتيت، وهو أول كيانٍ وِحدوي نشأ في الشرق الأوسط الحالي. وما يُــضاعف الخطر على الاستحقاق الرئاسي اللبناني هو أنه يَـــعِـــزُّ على النظام السوري رؤيةَ رئيسٍ جديد للبنان يعترف به العالم فورَ فوزه، بينما يستعدّ العالمُ لعدم الاعترافِ بتجديد ولايةِ الرئيس بشار الأسد، وكأن رئاسةَ لبنان أيضاً من رئاسةِ سوريا!
هذا الربط الزمني والنوعي بين الكيانيةِ اللبنانية ـــ ورئيسُ الجمهورية رمــزُها ــــ والتحولاتِ الشرقِ أوسطية مغايرٌ لمسيرة الجمهورية اللبنانية طَوال القرن العشرين: فنشوء دولة لبنان سنة 1920 لم يَنتظر ولادةَ الدول العربية الأخرى، ونيلُ استقلال دولة لبنان لم يُربط بحصول دول الشرق الأوسط على استقلالها، والنظام الديموقراطي اللبناني لا يزال حالةً فريدة تُــحظِّر الدولُ العربية دخولَه إليها، ولو تسللاً. لكن “السبَـق” اللبناني ما كان ليحصل، في الماضي، كيانياً واستقلالياً وديموقراطياً، لولا وجودُ قــوّةِ رعايةٍ خارجية هي فرنسا، وقــوّةِ ريادةٍ داخلية هي الموارنة. أما اليوم فقوى “الرعاية” تعيد لبنان إلى الزمن العثماني (ولايات)، وقوةُ الريادةِ دمرتها الحروبُ المارونية وأضعفَها دستورُ الطائف وأخـرَسها السلاحُ و/أو المال، وأعماها طموح المصالح الشخصية.
لم يكن انتخابُ رئيسِ الجمهورية اللبنانية مرادِفاً لاستقلال الوطن، بل لاستقرار النظام، أكانت الأرضُ حرةً أم محتلة. هكذا خضع الاستحقاق الرئاسي اللبناني عبر تاريخه لثلاث مراحلَ نوعية: مرحلةُ الانتداب الفرنسي (1926/1943) حين كان المفوض السامي يَـفصل بين المرشحين. ومرحلةُ الاستقلال (1943/1975) حين كانت “المارونية السياسية” عنصرَ انتظامِ السلطة والحُكم، فـــيَخرُج الرئيسُ، أو يُــخـــرَّج ، من كنفِها، ومرحلةُ الاحتلال السوري (1976/2005) حين كان النظام السوري يختار الرئيس، و”قادة” لبنان يستجيبون.
أما اليوم، بعدَ دستورِ الطائف والانسحاب السوري، فالنظام اللبناني فَــقَــد استقراره الدستوري بحكم فقدان المرجعية الناظمة، أكانت خارجية أم وطنية. وفيما بدت رئاسةُ الجمهورية أكثر المتضررين لأن القيادة المارونية منقسمةٌ ومستضعَفة، انقذت الشيعيةُ السياسية الموحَّــدةُ تحت المرجعية الإيرانية رئاسةَ المجلس النيابي، وحافظت السنــيّــةُ السياسية الموحَّــدة تحت المرجعية السعودية على رئاسة الحكومة. ولأن جوهرَ الصراع ليس على الرئاسة بقدر ما هو على تحديد المرجعية الناظمة في لبنان ما بعد 2005، يُخشى أن يبقى استحقاق الرئاسة معلقاً في مهبّ رياح اللااستقرار الدستوري في انتظار بروز المرجعية الجديدة، ولو عن بُــعد.
في هذا السياق، إن إحدى خلفيات عرقلة انتخاب رئيس الجمهورية هي تصميمُ مكـــوّناتٍ لبنانية على ضربِ هالةِ رئاسة الجمهورية وعلى جعل هذا الاستحقاق، الأسمى في الدولة والوطن، قراراً مِزاجياً لا واجباً وطنياً، وتسويةً سياسية لا استحقاقاً دستورياً. هكذا يصبح انتخاب الرئيس ورقةَ مفاوضةٍ ومقايضة في مرحلة تغيير النظام اللبناني. وليس أدلُّ على ذلك سوى إخضاعِ الاستحقاق الرئاسي لمنطق “الفيتو”، في حين أن الانتخاب، أي انتخاب، يحترم منطقَ التصويت بين الأكثرية والأقلية من خلال تحالفات شفافة وصادقة. وضربُ هالةِ الرئاسة لا يستهدف المنصِبَ حصرياً، بل ما يرمز إليه، أي الدور المسيحي في دولة لبنان.
إن هناك سعياً لإسقاط الدولة التي بناها المسيحيون ببنيتها وهويتها ودورها ومميزاتها بغية إقامة دولة مناقضة لرسالة لبنان في هذا الشرق والعالم. أنشأ المسيحيون جمهورية لبنانية تخطت مفهوم الأكثريات والأقليات نحو مجتمع يحيا تنوعه في كنف الديموقراطية. أما الجمهورية التي يسعى البعض إلى إنشائها، فمن شأنها أن تَخلط لا التحالفات السياسية فقط، بل العلاقات بين الطوائف اللبنانية من منظار الصراع المتفجِّر في المنطقة بين الأكثريات والأقليات، وهو الصراع الذي استغله العثمانيون والغرب في القرنين التاسع عشر والعشرين لافتعال الفتن الطائفية في لبنانَ الجبلِ والدولة.
منذ بدء التسعينات تناوب أكثرُ من طرف داخلي وخارجي على التزام تنفيذ هذا المخطَّط من دون أن ينتهج القادةُ المسيحيون سياسةً مستقلة وموحَّـدة تحــدُّ منه، لا بل أن بعضَهم ساهم من خلال تموضعه وتعامله ومواقفه – ولامواقفه ـ- بتعزيز هذا المخطَّط المناهض لكل ما يمثّــله الميثاقُ الوطني. وما الخلافات الناشطةُ بين المواقع المسيحية الروحية والرسمية والسياسية والنخبوية حول استحقاق الرئاسة سوى تعبيرٍ صارخ عن تنامي حِسّ اللامسؤولية لدى عدد وافرٍ من هؤلاء: فلا اتفقوا على مرشح جامع ولا على تأمين النصاب ولا على آلية تبادلِ التأييد.
انتظرت الجماعةُ المسيحية أن ينتهزَ القادةُ المسيحيون الاستحقاقَ الرئاسي ليكسِروا نهجَ التراجع السياسي ويجعلوه انتفاضةً وطنية ميثاقية تعيد التوازنَ المختل منذ خمسٍ وعشرين سنة لمصلحة اللادولة، لكنها فوجئت بازدياد منسوبِ الشخصانية القاتلة لدى غالبيةِ القادةِ المسيحيين. لذا لا بد للشعب من أن يَــنتفض على هذه الطبقةِ السياسية عموماً وينتزعَ منها “حقَّ التمثيل”. فإذا كانت سلسلةُ الرتب والرواتب تستحق تظاهرةً، فالحفاظ على الجمهورية يستحق ثورة.
ماذا يمنع الشعب اللبناني من أن يتوجه في الأسبوع الأخير من المهلة الدستورية إلى قصر بعبدا لمنع شغور القصر، وإلى مجلس النواب لانتخاب ساكن القصر الجديد، ولِمَ لا إلى منازلِ حضرات النواب المقاطِعين لإجبارهم على حضورِ جلسة انتخاب رئيس جديد؟
أيها الشعب فجّر غضبك، وهؤلاء هم أَولى به.