لنفترض، لبرهة، أن منطق «القانون الأرثوذكسي» اعتُمِدَ لانتخاب رئيس الجمهورية الماروني. يمكن أن يترجم ذلك بأن يجتمع النواب المسيحيون في ما بينهم على حدة وينتخبوا مرشحهم الموحّد للرئاسة ويتوجهوا للشريك المسلم في الوطن على اختلاف انتماءاته المذهبية بقصد تأمين المظلة الوطنية لهذا الترشيح. لا شيء يمنع ذلك من الناحية الدستورية، لكن لا شيء يتيحه من الناحية العملية.
لن يطرح أي طرف سياسي جديّ مثل هذا الأسلوب، ومع ذلك ثمّة مناخ عارم في الشارع المسيحي وفي النخب السياسية المسيحية ينادي برئيس مسيحي قويّ، علماً أن السيناريو المنطقي الوحيد للخروج برئيس قوي هو ما تخيّلناه: أن يختاره المسيحيون من بين مرشحيهم ويصادق عليه المسلمون. هذا متعذّر. إذاً، وجب التأني قليلاً عند الحديث عن رئيس مسيحي قويّ. لأنه، لو ترك الأمر للعملية البرلمانية في وجهها الحسابي، لظهر أن تبارز مرشحين مسيحيين «أقوياء» من الناحية الشعبية في ما بينهم، وتبارزهم أيضاً مع مرشحين أقل شعبية على الصعيد المسيحي، سوف يعطي أفضلية للأقل تمثيلاً والأقل قوة على الصعيد المسيحي البحت.
كثيرة هي المقولات التي نرددها منذ عقود من دون بذل مجهود لـ«تزييتها» أو إعادة التفكير بها. منها مقولة «قانون انتخابي عصري ويضمن صحة التمثيل». وهذا كمن فسّر الماء بالماء لأن الاختلاف قائم أساساً حول معرفة أي قانون انتخابي يضمن صحة التمثيل وليس بين قانون يدّعي ذلك وآخر يفاخر بعكس ذلك. الشيء نفسه بالنسبة الى «حقوق المسيحيين» كما بالنسبة الى «رئيس قوي». في الواقع، الأسهل هو تحديد مواصفات المرشّح الرئاسي الضعيف، سواء من حيث ضعف شعبيته ضمن المسيحيين أو من حيث ضعف شعبيته ضمن المسلمين أو من حيث ضعف أهليته لتولي المنصب من حيث تواضع قدرته على الاستقلال بحيثيته عمّن جاء به، أو من حيث سهولة تهميشه. في المقابل، ليس سهلاً تحديد معايير الرئيس المسيحي القوي خارج السيناريو الخيالي لاجتماع النواب المسيحيين لاختيار مرشح مسيحي أوحد للاستحقاق الرئاسي.
ثمة طبعاً ثنائية استثنائية هي التي يشكلها العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع. هذه عمرها ربع قرن. لم تمنعها حربا «التحرير» و«الإلغاء» ثم الاجتياح السوري للمتنين ثم الوصاية السورية على لبنان ونفي الأول وسجن الثاني من إعادة انتاج نفسها «خارج النظام» ثم من داخله مع تسارع الزمن باتجاه إنهاء عهد الوصاية. اليوم هذه الثنائية تطرح نفسها بشكل حيوي على محك الاستحقاق الرئاسي، إنما بالشكل الذي يعطّل كل قطب فيها «القوة الاسترئاسية» للآخر، الأمر الذي يعود فيعزّز احتمالات رئاسية أخرى أكثر تكيفاً مع السمة الزئبقية لبلد محكوم ليس فقط بالانقسام السياسي بين خط الثامن وبين خط الرابع عشر من آذار، وليس فقط بالاستقطاب السني الشيعي، بل أيضاً بالثنائية الإسلامية – المسيحية التي قد نخالها أحياناً صارت وراءنا، ونبالغ عندما نتخيل ذلك.
في المقابل، لئن كانت الحكومة الحالية تجاوزت حدة الانقسام بقصد «ربط النزاع» عشية الاستحقاق فإن كل خيار رئاسي من خارج ثنائية عون – جعجع يطرح السؤال أساساً حول إمكانية، ومغزى، أن ينتخب رئيس عتيد على قاعدة أنه «رئيس ربط نزاع». بالحد الأدنى، ربط النزاع في بيان وزاري لحكومة تضم الأخصام السياسيين ممكن ما داموا يتشاركون في وضعه. لكن رئيس الجمهورية هو من يقرّر خطاب قسمه ويرسم الجامع أو الفارق مع سلفه. مسألة رئاسة الجمهورية تتطلب شيئاً أكثر من ربط النزاع: تتطلّب رئيساً له رؤية لحل النزاع، وهذا بدوره معنى آخر لـ«قوة الرئيس».