IMLebanon

رئيس للبنان بعد ملء الفراغ من بغداد إلى حلب!

في ظل الاصطفاف الحاد والانقسام العمودي بين كتلتين كبيرتين يكاد يكون مستحيلاً على مجلس النواب اللبناني اختيار رئيس جديد للجمهورية. ولعل الذين يتبادلون الاتهامات بتعطيل هذا الاستحقاق ويتراشقون، يغالون في ردّ القرار النهائي في هذا الاختيار إلى أنفسهم. أو إلى ما اصطلحوا على تسميته «من صنع لبنان». بل لعلهم يغالون أكثر عندما يتوقعون انفراجاً في لحظة ما كما حصل لدى ولادة الحكومة بعد نحو أحد عشر شهراً، ثم التوافق على بيانها الوزاري فإقرار الخطط الأمنية وإطلاق يد الجيش والأجهزة الأمنية لوقف التدهور في أكثر من منطقة. لن تحصل معجزة أو مفاجأة كبيرة. لن يكون هذا الاستحقاق مغايراً لما سبق منذ نالت البلاد استقلالها. لم يكن خياراً داخلياً إلا في ما ندر. لم يكن كذلك في أحسن الظروف فكيف يكون اليوم فيما المنطقة تعيش على وقع صراع مذهبي، وتعيش سورية على وقع حروب متعددة الجنسية والأطراف الإقليمية والدولية فضلاً عن نزاعاتها الأهلية والطائفية.

من المفيد ألا يغالي بعض المرشحين الذين يكاد بعضهم يخير اللبنانيين بين انتخابه أو توقع الفوضى. ويتناسى معظمهم أنهم كانوا ولا يزالون جزءاً من الانقسام الداخلي. وجزءاً من الأزمات التي يعيشها البلد، سواء زمن «الوصاية السورية» أو بعده. لم يجاف الرئيس نبيه بري الصواب عندما وصف الواقع على حقيقته: «كل فريق بات يعرف حجمه وحجم الطرف الآخر، ويعرف أيضاً أن ليس بمقدوره الحصول على حجم أكبر كي يتمكن من ترجيح الكفة لمصلحته. لا المواقع ستتغير ولا الأصوات ستتبدل». تغيرت التوازنات الداخلية إلى حد بات مستحيلاً في ظل الانقسام السياسي والمذهبي توفير النصاب المطلوب لانتخاب الرئيس الجديد. لذلك من العبث مواصلة التراشق العلني الذي يفاقم الانقسام. ولا طائل من إضاعة الوقت في محاولات يائسة لإيصال مرشح لا يحظى بالاجماع. أو بالأصح لا يلقى توافقاً من الكتلتين الاسلاميتين الكبيرتين. فقد المسيحيون فرصة «تقديم» مرشح اجماع من صفوفهم يقدمونه إلى شركائهم، كما فعلوا في مناسبات قليلة ماضياً.

سيمر وقت قبل أن ينسحب «الصقور» من الميدان. هم يعرفون سلفاً صعوبة التوافق على واحد منهم. لو حصل هذا يعني أن انقسام البلاد إلى زوال. بل يعني أن التفاهم بين المتناحرين في الإقليم وصل إلى نهايته. وهذا ليس واقع الحال بالتأكيد. لعل أقطاب فريق «14 آذار» يريدون من وراء التمسك بالدكتور سمير جعجع الوصول في النهاية إلى إسم آخر من تكتلهم أكثر قبولاً لدى الطرف الآخر، يقدمونه بمثابة «تنازل». أما قوى «8 آذار» التي تنتظر التوافق على الجنرال ميشال عون فقد تنتظر عبثاً. لو كان ثمة أمل لما كان هناك ما يوجب مقابلة الفريق الآخر بفتح ملفات قديمة لمرشحه المعلن. كيف يخدم هذا الموقف سعيهم إلى التوافق؟ والأهم كيف التوافق بين برنامجين متعارضين؟

لم تحصل «معجزة» في التوافق على تشكيل الحكومة أو على الخطط الأمنية. استغرق الرئيس تمام سلام أحد عشر شهراً كانت كافية لتوكيد توازن القوى القاتل والمعطل، وانتهت بتقديم تشكيلة لم تستثن أحداً أو تغلب فريقاً على آخر. فهل يعقل بعد هذه التجربة أن يفكر مرشح من هنا أو هناك في أنه قادر على الوصول إلى بعبدا من دون الحصول على مباركة كل هؤلاء الممثلين في مجلس الوزراء؟ لعل ما دفع إلى قيام حكومة سلام هو إدراك المعنيين المحليين وأهل الخارج أن التوافق على الرئيس الجديد ربما استغرق وقتاً طويلاً، فكان لا بد من ملء الفراغ بوزارة تسير شؤون الناس حتى حصول «المعجزة» المنتظرة، أو ربما أكثر من معجزة من خارج الحدود. وما دفع إلى التوافق على إطلاق يد الجيش شعور الذين وفروا غطاء ودعماً لجبهات القتال شمالاً أو بقاعاً بأن هذه الورقة استنفدت أغراضها. وخشيتهم من تدهور واسع لا قدرة لأحد على التحكم بنتائجه ولا مصلحة لأحد في انفجاره. ما تحقق على الأرض من القصير إلا القلمون عزز مواقف «حزب الله» وسهل عليه التقدم نحو خصومه. لا يريد جبهة في الداخل تشغله عن الجبهة السورية. وكانت رغبة خصومه في التوافق واضحة أيضاً بعدما عززت الجماعات المتشددة تقدمها في كل من طرابلس والشمال عموماً والبقاع الشمالي على نحو بات يهدد حضور هؤلاء الخصوم ونفوذهم. وعزز هذه الرغبة أيضاً خوفهم من فراغ رئاسي قد تملأه حكومة مستقيلة غابوا عنها.

لكن المبالغة في البناء على أن توافقاً إقليمياً ودولياً كان وراء ولادة حكومة الرئيس سلام لا تخفي تماماً حقيقة الأجواء المختلفة في المنطقة كلها التي تواكب المحادثات الخاصة بالبرنامج النووي الإيراني والحوار القائم بين واشنطن وطهران. بالطبع لم تصل الأمور إلى خواتيمها لارتباطها بأكثر من من طرف وملف وقضية في الإقليم. لذا لن يكون بمقدور اللبنانيين اليوم أن «يصنعوا» رئيسهم داخل الحدود لأن التوافق الخارجي ليس في متناول أيديهم. سيكون عليهم انتظار العراقيين الذين لن يكون بمقدورهم هم أيضاً أن «يصنعوا» حكومتهم بأيديهم. وانتظار السوريين من أهل النظام الذين لن يكون بمقدورهم أن يسوقوا نتائج الانتخابات الرئاسية مطلع الشهر المقبل. هناك ترابط بين هذه الاستحقاقات لا يجب تجاهله أو التقليل من أهميته.

لذا سيكون على اللبنانيين، على الأرجح، أن ينتظروا ما سيؤول إليه الصراع في بغداد بعد الانتخابات النيابية الأخيرة. قد لا يكون من مصلحة إيران هذه المرة أن تتمسك بنوري المالكي كمل فعلت قبل أربع سنوات، على رغم معارضة دول الخليج وتركيا وسورية في حينه. وما كان على واشنطن سوى الرضوخ لهذه الرغبة. كانت فقدت الكثير من وسائل النفوذ والضغط على رغم أن القوات لم تكن انسحبت بعد من العراق. هذا «التوافق» الإيراني – الأميركي ربما تجدد على قاعدة ما يشي به الحوار الدائر بين الطرفين. ستظل الكلمة الأولى لطهران التي حرصت عشية الانتخابات على الظهور مظهر البعيد عن أي تدخل، خصوصاً في المعركة بين القوى الشيعية. لكنها لن تقف هذا الموقف مع انطلاق الصراع على تأليف الحكومة الجديدة. قد ترضى بالتخلي عن زعيم «دولة القانون» لكنها لن تجازف بحل التحالف الشيعي الواسع أو تجازف بعزل زعيم «دولة القانون» عن ساحة القرار، بل ربما ضغطت لعودته ثالثةً. أي أنها لن تقبل بانقلاب على دورها بقدر ما قد تقبل بتدوير المناصب في الصف الشيعي إذا كا من شأن ذلك تسهيل الحوار مع أميركا، وتوجيه رسائل طمأنة خصوصاً إلى الجوار الخليجي لحضه على حوار مماثل. وأبواب سلطنة عمان مفتوحة. أدت دوراً مساعداً بين واشنطن وطهران فلماذا ستتردد في المساعدة على إطلاق حوار بين هذه والرياض؟ هذا إذا لم تكن بدأت بجس النبض. وكانت أدت دورها وساهمت مع الكويت في لملمة الخلاف الخليجي داخل مجلس التعاون عشية قمة الخليج والقمة العربية.

في أي حال ستؤشر المعركة القادمة في بغداد على شكل الحكومة المقبلة إلى قدرة كل من الجمهورية الإسلامية والولايات المتحدة على توليف وزارة على شاكلة سابقتها قائمة على مبدأ التوافق، أي المحاصصة التي لا تغني ولا تسمن بقدر ما تعمق خيارات التفكك والانقسام والتقسيم. وربما جاء الفراغ في بغداد هذه المرة أطول مما كان إثر الانتخابات السابقة. وسترسم نهايته حدود التوافق الإقليمي والدولي بين كل المتصارعين.

الوجهة في بغداد ليست وحدها تؤشر إلى الوجهة في لبنان. التطورات في سورية لها نصيبها الأكبر. قد لا تغير الانتخابات الرئاسية في مسار الأزمة، إلا إذا نجحت أطياف المعارضة في إبعاد حلب عن صناديق الاقتراع بعد استعادة النظام حمص وإن خالية من أهلها. وليس خافياً هنا دور تركيا التي بدأت باكراً في تسهيل معركة كسب لفتح بوابة للعاصمة الشمالية وإدلب وريفها من نحو البحر… لعل وعسى! فإذا كان لا مفر من تقسيم البلاد بفعل الأمر الواقع، كما هي حال العراق اليوم، يكون لهذا الجزء السوري واجهته على البحر. وإذا كان ثمة بعض الأمل بتسوية سياسية مع تقدم قوات النظام، سيكون على المعارضة ممارسة مزيد من الضغط على جبهة اللاذقية ساحلاً وجبلاً لإقامة حد أدنى من توازن يكاد يكون صعباً.

لا بد إذاً من انتظار التوافق بين اللاعبين الإقليميين ومن خلفهم القوى الدولية قبل أن يتقدم اللبنانيون بحثاً عن رئيس توافقي، أي رئيس يحظى بقبول الطرفين السني والشيعي أساساً ما دام أن المسيحيين والموارنة خصوصاً سلموا بعجزهم عن التوافق على مرشح واحد يتقدمون به إلى شركائهم الذين يتذرع كل منهم أو يتلطى اليوم وراء ما يسميه «مسؤولية» الشريك المسيحي في تقديم مرشح واحد. لا مناص من رئيس توافقي والمنطقة على انقسامها، ولبنان جزء من هذا الانقسام بل جبهة متقدمة فيه. وما دامت سورية مرشحة لمزيد من التدهور، فإن لبنان سيبقى في قلب هذا التدهور. وسيبقى مرشحاً لمزيد من الصعوبات الأمنية والاقتصادية بفعل هذا الكم الكبير من اللاجئين السوريين الذين يعرضون بنيته الديموغرافية لخلل خطير، وبفعل تفاقم الحراك الاقتصادي الداخلي الذي لا يخلو من تحريك سياسي. قد تعزز هذه التوقعات القاتمة دور المؤسسة العسكرية، ووتعزز تالياً الاجماع على هذا الدور… ولعل ذلك يشكل مدخلاً لتوافق خارجي وداخلي على قائد المؤسسة، المرشح غير المعلن، ويكررها اللبنانيون مرة ثالثة بعد الجنرالين اميل لحود وميشال سليمان!