إنشغلَ الوسط السياسي بقراءة أبعاد المبادرة التي طرحها رئيس تكتّل «الإصلاح والتغيير» العماد ميشال عون، خصوصاً لجهة التوقيت والرسائل التي أراد توجيهها، حيث إنّ إحياءَ المشروع الأرثوذكسي، الذي كان طواه منذ انفتاحه على تيار «المستقبل»، يشكّل ردّاً على الرئيس سعد الحريري بأنّ عدم انتخابه يدفعه إلى تعويم الأرثوذكسي، وأنّ الحبل على الجرّار. وفي التوقيت اختارَ عون اللحظة التي تشهد فيها المنطقة صعوداً للتطرّف والكلام عن إعادة النظر بترسيمات الدول بدءاً من العراق وإعلان الدولة الإسلامية، كما تحوّل الدولة الكردية إلى أمر واقع، وما قد تسبّبه هذه التحوّلات من ارتفاع في منسوب المخاوف المسيحية، الأمر الذي يدفعهم إلى الالتفاف حول العماد عون وطروحاته، وبالتالي أراد أن يقول للجميع بأنّه على استعداد للذهاب إلى الحد الأقصى وملاقاة التطوّرات الخارجية في حال لم يُصَر إلى أخذ مطالبه في الاعتبار. فمبادرة الجنرال تجمع ما بين التكتيك والخيار، حيث ترمي إلى حرف الأنظار عن اتّهامه بتعطيل الانتخابات الرئاسية عبر رمي الكرة في ملعب الآخرين بتحويل النقاش من جلسات الانتخاب إلى مكان آخر، وأمّا على مستوى الخيار فقد أعلن بشكل واضح أنّه يريد إدخال تعديل جوهريّ على الدستور عبر تكريس الطائفية بدلاً من تجاوزها، كما نصَّ اتّفاق الطائف.وفي الخلاصة يمكن القول إنّ مبادرة عون أنهَت شهر العسل مع «المستقبل» من دون أن تحييَه مع «حزب الله» الذي يجد نفسَه مربكاً لعدم رغبته في الاصطدام مع عون وخسارة الغطاء المسيحي، كما عدم رغبته في الاصطدام مع «المستقبل» في ظلّ الهجمة الأصولية عليه. فالأرثوذكسي الذي كاد يهدّد التحالف بين «المستقبل» و»القوات اللبنانية» سيُعيد العلاقة بين «المستقبل» و»التيار الوطني الحر» إلى المربّع الأوّل.
الأنظار مركّزة على التطوّرات العراقية وإعلان تنظيم الدولة الإسلامية «الخلافة الإسلامية»، ومدى انعكاس هذه التطورات على مجمل المنطقة العربية والإسلامية، خصوصاً مع بدايات التفكّك والانفصال في العراق، والمخاوف من انسحاب هذا المشهد على سوريا، كما على الاستقرار في لبنان. فالمنطقة «تغلي» وسط غياب دولي وحذر عربي وعجز أممي، والكلمة الفصل أصبحت للتطورات الميدانية التي ترسم مستقبل المنطقة وشعوبها.
واشنطن
وفي هذا السياق قالت الولايات المتحدة إنّ «إعلان تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام «الخلافة الاسلامية» على الاراضي التي يسيطرون عليها في العراق وسوريا «لا يعني شيئاً».
وقالت المتحدّثة باسم الخارجية الاميركية جين بساكي: «سمعنا من قبل مثل هذه الكلمات من تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام. هذا الاعلان لا يعني شيئاً للناس في العراق وسوريا»، مشيرةً الى انّ «التنظيم يحاول السيطرة على الناس بالخوف».
أوراق استراتيجية
ونبَّه مصدر في قوى 8 آذار من خطورة طرح الخلافة الاسلامية، مبدياً خشيته من ذهاب الوضع الى فراغ مع تمدّد داعش السريع، ومن ان تتوقف كلّ الاستحقاقات في لبنان. واستبعد أيّ تدخّل دولي راهناً «إذ إنّ الدول منشغلة بأمور اكبر من لبنان الذي بات تفصيلاً صغيراً بالنسبة إليها، فما يهمّها فقط هو الأمن في لبنان» .
وقال المصدر لـ»الجمهورية»: عندما يتحدّثون عن «الدولة الاسلامية في العراق والشام» كانوا يحدّدون بذلك الرقعة الجغرافية، لكن عندما يقولون اليوم بالخلافة الاسلامية فيعنون بذلك جميع المسلمين في كلّ العالم، فحيث سيستطيعون بسط سلطتهم سيُخضعون المناطق لسلطة الخلافة الاسلامية.
ولاحظَ المصدر أنّه أصبح لداعش رقعة جغرافية تسيطر عليها، ولديها موارد تستطيع استثمارها فتمنحها شيئاً من مقومات الاستمرار، ما يؤدّي الى تقوية وضع الدولة الاسلامية وتمكينها. كذلك تملك «داعش» أوراقاً استراتيجية تتحكّم بها، فهي تسيطر على سدّ الفرات فتتحكّم بالناس بالمياه وهو يغذّي العراق. كذلك تستطيع التلاعب بوضع العراق والتأثير عليه عبر هذا الباب، ما يسبّب مشكلة استراتيجية كبيرة له.
واعتبر أنّ المعركة مع «داعش» في المنطقة كبيرة، وهي ستضرب في المقابل خبط عشواء، وأبدى تخوّفه من ان يكون لبنان ساحة لأعمال تخريبية.
طرحُ عون
وكان عون اقترحَ في مؤتمر صحافي امس إجراء تعديل دستوري محدود يهدف الى جعل انتخاب رئيس الجمهورية مباشرة من الشعب وعلى دورتين، الأولى على المستوى المسيحي، والثانية على المستوى الوطني. ودعا إلى «معالجة الخلل الميثاقي، متقدّماً بمبادرة إنقاذية، ووضعها برسم الأطراف السياسية، ودعا النوّاب إلى مناقشتها بعيداً عن السجالات السياسية».
وتوجّه عون الى كلّ الذين يحمّلون «التكتّل» مسؤولية الشغور بالقول: «لقد عشتم 24 سنة بالشغور». أضاف: «ثمّة حملات إعلامية تهدف لتحميلنا مسؤولية تعطيل انتخاب رئيس جمهورية والوصول للشغور»، وشدّد على انّ الوقت حان «لوضع حدّ للفراغ، لذا نحاول اليوم إيقاظكم، علّكم تدركون ماذا أنجزتم من اتّفاق الطائف الذي عارضناه في حينه».
ورأى أنّه «جرى تغييب المكوّن المسيحي عن السلطة، وإذا بالمناصفة تصبح عنواناً بلا مضمون، ولم تمنح القوانين الانتخابية للمسيحيين الحقّ سوى بانتخاب 17 نائبا»، وسأل: «هل أصبحت المناصفة حبراً على ورق لدرجة أنّه يتم الاختيار منها وفقاً لمصلحة فريق أو آخر»؟
واعتبر عون أنّه يتوجّب على كلّ طائفة ان تنتخب نوّابها في الندوة البرلمانية، وهذا يؤمّن العدالة المطلقة والاستقرار، وقال إنّ الادّعاء بأنّ هذا القانون يرسّخ الطائفية خاطئ».
الراعي
وفي حين لم يصدر عن بكركي أيّ تعليق مباشر أو غير مباشر على طرح عون، أكّد مصدر كنَسي لـ»الجمهورية» أنّ «معركة بكركي الآن هي انتخاب رئيس جمهورية جديد فقط لا غير، وأنّها لن تدخل في تفاصيل أو اقتراحات تُلهي عن الإستحقاق الرئاسي، لأنّها تعمل على قاعدة أنّ كلّ شيء مؤجّل حتى انتخاب رئيس». وكان البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي أكّد أنّ «لبنان بحاجة إلى ذهنيّات وقيادات جديدة»، لافتاً الى أنّ «الكيان هو الدولة اللبنانيّة، بدءاً بالرأس، أي برئيس الجمهوريّة». وأسفَ لأن يكون المجلس النيابي «غير قادر أن يفهم بأنّ الدّولة اللبنانيّة لا يمكن أن تكون قادرة على العيش من دون رأس».
وعلمَت «الجمهورية» أنّ الراعي أطلعَ الفاتيكان على رغبةٍ لديه في القيام بجولة على عواصم الدول الخمس الكبرى الدائمة العضوية في مجلس الامن، للبحث معها في مساعدة لبنان على إجراء انتخاب رئيس جمهورية انطلاقاً من الخوف من أن تطيح الأحداث الجارية في المنطقة برئاسة الجمهورية التي هي رئاسة مسيحية في المشرق، في ظلّ ما يتعرض له المسيحيّون.
وكذلك يعمل الراعي على عقد مؤتمر مسيحيّ عام أوسع من الأقطاب المسيحيين الأربعة، يصدر عنه موقف جامع يدعو إلى انتخاب رئيس جمهورية في أقرب وقت ممكن.
مكاري
وعن إمكانية تطبيق طرح عون الرئاسي، رأى نائب رئيس مجلس النواب فريد مكاري أنّه «غير قابل للتطبيق»، وقال لـ»الجمهورية»: «إنّ انتخاب الرئيس من الشعب يتطلّب تعديلاً في صلاحيات الرئيس، وبالتالي نظامنا يصبح رئاسياً، ونعلم جميعاً أنّ الخلاف جذريّ حول هذا الموضوع، فنحن في وضع اليوم لا نتمكّن من انتخاب رئيس جمهورية جديد، وتعديل الدستور فيه من الصعوبة بمكان، وأعتقد أنّه غير قابل للتطبيق. فالاقتراح جاء في التوقيت الخاطئ جداً، إذ إنّ تغيير الدستور وصلاحيات رئيس الجمهورية غير ممكنين اليوم، خصوصاً أنّ لبنان يشهد انقساماً داخلياً، وتحوط به مشكلات إقليمية.»
وعن طرحه الانتخابي، أجاب مكاري: «موقفُنا من موضوع انتخاب كلّ طائفة لنوّابها معروف، فهذا الأمر سيؤدّي الى مزيد من التعصّب في لبنان وإلى تصغير الحجم التمثيلي. فالطائفة السنّية أو الشيعية، حجم كلّ منهما أكبر من الحجم المسيحي مجتمعاً، وربّما يأتي يوم يطالبون فيه بالمثالثة، فإذا كانت نيّة عون الوصول الى المثالثة في لبنان فليعلن ذلك جهاراً وليس التفافاً».
قزّي
وأكّد وزير العمل سجعان قزّي لـ»الجمهورية»، وقد زار رئيس الحكومة تمّام سلام عصر أمس، أنّه «لا يجوز البحث في أيّ تعديل للدستور قبل انتخاب رئيس جمهورية جديد، وكلّ محاولة للالتفاف على انتخابات رئاسة الجمهورية بفتح ملفّات أخرى تضع لبنان أمام المجهول، ونحن في حزب الكتائب كنّا أوّل مَن نادى بضرورة تصويب اتّفاق الطائف وسَدّ الثغرات الدستورية وإصلاح النظام، ولكن لا شيء من هذه الطروحات الضرورية لتحديث الدولة يمكن أن يحصل من دون وجود رئيس للجمهورية، فالرئيس أوّلاً ثم الباقي.
حمادة
بدوره، قال النائب مروان حمادة لـ»الجمهورية»: «يحتار المرء كيف يتعاطى مع مبادرات العماد عون التي تتنقّل من «الأرثوذكسي» إلى «الأسدي»، ومن البرلماني إلى الرئاسي، ومن الديموقراطي الى الديكتاتوري، والمطلوب واحد: كرسيّ الرئاسة أيّاً كان الثمن، ولو على حساب الميثاق والوفاق والدستور والواقع».
أضاف: «في هذه الأيام التي تختلط فيها النظم القمعية مع الدعوات التكفيرية، نطالب العماد عون بأن يكفّ عن اللعب بمصالح اللبنانيين عموماً والمسيحيين خصوصا».
8 آذار
وفيما علمت «الجمهورية» أنّ «حزب الله» لن يتّخذ موقفاً من مبادرة عون قبل درسها، قالت مصادر في قوى 8 آذار لـ«الجمهورية» إنّ انتخاب الرئيس من الشعب يتطلب تعديلاً في النظام اللبناني ليصبح نظاماً رئاسياً بدل ان يكون برلمانيا، ويصبح الرئيس يملك تفويضاً شعبيا، وتكون سلطته أكبر وأوسع من سلطة مجلس النواب، ما يعزّز مكانتَه وتُعادُ له بذلك صلاحيات كثيرة خسرَها في اتفاق الطائف. ويمكن أن يكون طرح العماد عون قد جاء من هذا منطلق، أي لرَدّ الصلاحيات الواسعة لرئيس الجمهورية.
وأضافت المصادر: «لا نستطيع أن نقول إننا ضد هذا الطرح، فانتخاب الرئيس من الشعب يمكن أن يكون أحد الحلول للبنان، ولكنّ عون اشترط ان يكون الانتخاب على دورتين: الأولى مسيحية والثانية وطنية. والطوائف الإسلامية لن تسير بذلك، فإذا ألغينا شرط أن يكون الطرح على مرحلتين ويصبح الانتخاب من الشعب مباشرةً، نعتقد أنّ المسلمين سيسيرون به، وليأتِ رئيس جمهورية مسيحي.
ثمّ إذا وافق «حزب الله» اليوم على طرحه، على اعتبار أنّه يملك الأكثرية المسيحية، ماذا يفعل بعد ذلك إذا ترشّح غيرُه مثلاً أو سمير جعجع، وكانت لديه أكثرية مسيحية؟ فهل سيفرض حينئذ علينا أن ننتخب جعجع شعبياً بينما الأكثرية النيابية التي تمثّل كلّ الشعب هي التي تنتخب رئيس الجمهورية؟»
مجلس وزراء
وعلى صعيد آخر، يبحث مجلس الوزراء في جلسته بعد غد الخميس في السراي الحكومي في جدول أعمال من 117 بنداً معظمها بنود عادية تتوزّع بين قضايا إدارية وماليّة وقبول هبات مالية وعينية، خصوصاً مع بداية شهر رمضان.
وفي جدول الأعمال تعيينات إدارية من الفئتين الثالثة والرابعة وفي عدد من الوزارات والمؤسّسات العامة ومباشرين قضائيين وعدليين، بالإضافة الى تراخيص لجامعات خاصة جديدة وتراخيص لكلّيات جديدة تابعة لجامعات مرخّص لها سابقاً، وهو بندٌ سيثير لغطاً في الجلسة قد يؤدّي الى تأجيله إلى مرحلة لاحقة.
ويتجاهل جدول الأعمال أيّ إشارة الى تثبيت أساتذة الجامعة اللبنانية أو أيّ من مطالب العاملين في الجامعات والكليات التابعة للجامعة الوطنية. وعبّرت مصادر وزارية لـ»الجمهورية» عن خشيتها من أن لا يحظى عدد مهم من بنود جدول الأعمال على توافق، ما قد يعطّل إقرار عدد من المشاريع المطروحة منها، خلافاً لجدول أعمال الجلسة السابقة التي أقرّ خلالها كلّ البنود باستثناء بند واحد.
الوضع الأمني
وقد واصلت الأجهزة الأمنية إجراءاتها وتعقّباتها بغية استباق أيّ محاولة إرهابية جديدة، وعلمت «الجمهورية» أنّ القوى الأمنية في حالة من الاستنفار القصوى لإحباط أيّ مسعى تخريبي، وفي هذا السياق استقبل رئيس مجلس النواب نبيه برّي أمس في عين التينة وزير الداخلية نهاد المشنوق الذي عرض معه للأوضاع الراهنة والوضع الأمني في البلاد.