لا نملك غير الاعتذار منك، دولة الرئيس، لأننا عجزنا عن منع عملية جديدة لاغتيالك ومعك الدولة والوطن، وهذه المرة في قلب المجلس النيابي، وبعد سبع وعشرين سنة من جريمة تفجيرك في الجو وأنت في الطائرة العسكرية، مصراً على المجيء من طرابلس إلى مسؤولياتك كرئيس للحكومة، حتى لا يلتهم الفراغ ما كان تبقى ـ آنذاك ـ من الدولة…
ولقد تمت «العملية» الجديدة جهاراً نهاراً، وفي قلب المجلس النيابي، حيث أُطلقت عليك وعلى الدولة بمؤسساتها المختلفة، ثمان وأربعون «قذيفة صوتية» لكل منها دوي الابتهاج بالانتصار، مرة أخرى، على الوطن ودولته، على الشعب ووحدته، على الحق والحقيقة وكرامة الإنسان.
مرة جديدة انكشف المخبوء أو المموّه من حقائق هذا الكيان الممنوع من أن يصير وطناً لأهله جميعاً، وممنوعة مؤسساته المركبة بالغرض والمصالح من أن تكون هياكل دولة، بل لعلها أشبه بلعب الأطفال يُعاد تركيبها مرة كل بضع سنوات: تشكيل الحكومة فيها معجزة قد تستغرق سنة إلا قليلاً، وانتخاب رئيس جديد للجمهورية خلفاً للمنتهية ولايته قد يحتاج إلى اجتماع طارئ لمجلس الأمن الدولي للتوافق على البديل بين «أصحاب القرار»… أما المجلس النيابي فيعمل ـ في قلب الخلافات التي تشله ـ «على القطعة»، ثم يمدد لنفسه مرة، مع ترك المجال مفتوحاً لتمديد ثان وربما ثالث.
تجتاح براكين الغضب الأرض العربية، وتنزل الجماهير بالملايين إلى ميادين الثورة لتسقط أنظمة الطغيان والفساد والتبعية.. ويتابع الرعايا في لبنان هذه الانتفاضات بكثير من الحماسة التي لا تلبث أن تخنقها غصة العجز عن الثورة، لأن الوطن الصغير «كانتونات» طائفية ومذهبية مختصمة، ما يفرح بعضها يحزن البعض الآخر.
وتسمع سيلاً من المحاضرات عن الديموقراطية التوافقية، وعن الحرص على التوازن في تقاسم السلطة، لكي لا تهضم «حقوق» هذه الطائفة أو تلك، وينزل رجال الدين إلى الميدان مستنفرين العصبيات عبر إلغاء السياسة وطمس الهوية الوطنية الجامعة، فتصبح الطوائف «مجلس أمن» مصغراً، لكل طائفة فيه حق النقض، في حين يُشطب «المواطن» باعتباره دخيلاً أو عميلاً مدسوساً لتخريب الكيان وتهديم النظام.
الأفظع، دولة الرئيس، أن هذا النظام الأشوه الذي يلغي الوطن يكاد يصبح نموذجاً للنجاح عند بعض الكيانات العربية التي استولدت مثل لبنان على عجل، ولضرورات تخص «الخارج» وليس أهل البلاد الذين يمضون سهراتهم في التندر بالمعجزة اللبنانية.. ثم يمضي شبابهم وشاباتهم إلى تقليد الهجانة اللبنانية، فيتخلون عن لغتهم المقدسة ويسقطون عن كواهلهم أعباء الهوية الجامعة، العروبة، عائدين إلى كنف القبيلة المعولمة ويرطنون حول الديموقراطية وحقوق الإنسان، ويتباهون بالكوفية والعقال بوصفهما رمزاً دالاً على الثروة النفطية وليس على هويتهم الوطنية أو القومية.
بالمقابل، فإن ما جرى لسوريا وفيها، وللعراق وفيه، ولليبيا وفيها، ولليمن وفيها، والمخاض القاسي الذي تخوضه مصر ـ بميادينها التي استولدت عهداً جديداً في قلب الصعب ـ يزكي هذا النموذج اللبناني للدولة التي تغيب فلا تتفكك وان تقاسمت أرضها الكانتونات الطوائفية، وتستقيل حكوماتها فتبقى دولتها شهوراً طويلة بلا حكومة، وتنتهي ولاية المجلس النيابي فيجدد لنفسه بالإجماع وفي أربع دقائق، ويودع رئيس الجمهورية الشعب الصابر بخطب تطفح بالنصائح ثم يذهب إلى بيته بهدوء..
بالمقابل، يرشح نفسه للرئاسة مجدداً بعض من كان في موقع القرار يوم اغتيالك، والذي تسبب في إطالة أمد الحرب الأهلية وإسقاط قيمة العملة اللبنانية، وتهديم ركائز الدولة ومؤسساتها، واستجدى التجديد أو حتى تمديد ولايته ولو لسنة.
لقد غدت الرئاسة الأولى مطمحاً لأصحاب السوابق الذين أدانهم الرأي العام قبل أن تدينهم المحاكم وبعدما أدانتهم، معتمدين على انقسام الرعايا وعلى تعاظم النفوذ الأجنبي وأهل النفط، وسقوط تلك الأنظمة، التي كانت تسمى «تقدمية»، معنوياً وشعبياً.
لقد رحلت شهيداً عظيماً، وبقي الناس يقاتلون العسف والظلم والفساد، ويفتقدون الدولة المغيبة فلا يجدونها، ويفتقدون وحدة الشعب التي تعجزهم عن القرار.. ومع ذلك سنبقى نعتبرك رمزاً لرجل الدولة في بلد يفتقد الدولة ورجالها..