عبارة مقتضبة اختصرت كلمة الرئيس تمام سلام الى اللبنانيين: لا يسعه سوى ان يفعل ما فعل، وهو اصراره على رفض التفاوض المباشر والمقايضة مع تنظيمين ارهابيين. خاطب اللبنانيين والسنّة قبلهم، ووزراء حكومته كذلك المنقسمين حتى الامس القريب بين مؤيد للتفاوض ومعارض له
في الغالب كان يقتضي ان يكون رئيس الجمهورية ــــ لا رئيس الحكومة ــــ مَن يخاطب اللبنانيين مساء الاحد عن الاخطار التي تتهدد البلاد، وهي تواجه ارهاب تنظيم «داعش»، طالبا ثقة مواطنيه ومؤازرتهم. الا انها من مرات قليلة يصبح المنبر بين يدي رئيس حكومة يمثل رأس الشرعية الدستورية في غياب رئيس الدولة، جراء تعذّر انتخابه لاكثر من ثلاثة اشهر خلت.
عندما خاطب اللبنانيين للمرة الاولى على هذا النحو، كان الرئيس تمام سلام لا يكتفي بتأكيد القواعد ــــ وان لم يعلنها ــــ التي رسمتها حكومته في مواجهة الارهاب التكفيري. بل راح يتصرّف كأنه المؤتمن على ما ناطته المادة 49 برئيس الجمهورية.
لم تكن رسالة الاحد سابقة لرئيس مجلس للوزراء انتقلت اليه صلاحيات رئيس الجمهورية بعد شغور المنصب. قبله، وجد سلفه الرئيس فؤاد السنيورة نفسه في حال مماثلة يخاطب اللبنانيين مراراً في حقبتين متناقضتين: اولى في ظل الانقسام الحاد الذي عصف بالبلاد بين عامي 2005 و2007، وثانية بعد انتهاء ولاية الرئيس اميل لحود من دون انتخاب خلف له.
اضحى السنيورة حينذاك، لا مجلس الوزراء الذي يرئس، يمثل الشرعية الدستورية في الاشهر الستة التالية من شغور الرئاسة بين عامي 2007 و2008، من خلالها لم يكتفِ بمخاطبة اللبنانيين، بل المجتمع الدولي برمته. كانت التحديات مختلفة، وكذلك الاستحقاقات: المحكمة الدولية، العلاقات الديبلوماسية مع سوريا وانهاء نفوذها في لبنان والمطالبة بايصاد الحدود الشرقية معها، سلسلة الاغتيالات السياسية ومن ثمّ رزمة القرارات الدولية التي آزرت شرعية حكومة السنيورة، وصولا الى النزاع المفتوح مع حزب الله بعد حرب تموز 2006 ومع سلاحه.
مع سلام تبدو التحديات مختلفة، وكذلك الاستحقاقات في ظروف اقليمية ودولية مختلفة بدورها. وما خلا التناحر الذي جبهه مذ انتقلت الى حكومته صلاحيات رئيس الجمهورية في 25 ايار، ومن ثمّ توصله الى آلية ادارة الحكم مع الوزراء الـ24 بتقاسم صلاحيات رئيس الجمهورية مستعيراً تجربة سلفه، تكاد تكون مواجهة الارهاب التكفيري الاستحقاق الوحيد امام رئيس الحكومة. ليس سلام «رئيس الدولة» الوحيد الذي يصطدم بارهاب بعضه ضرب انظمة وقوّضها كسوريا والعراق، وبعضه الآخر اقترب من حدود دول الخليج. بل يكاد لبنان يجمع الحالين معاً: دخل تنظيم «داعش» و«جبهة النصرة» الى الاراضي اللبنانية، من غير ان يقوّضا الاستقرار الداخلي تماماً.
لم يعد هناكمن تحت حتىنخشى السقوط
ما توخاه سلام في مخاطبته اللبنانيين بضعة معطيات، ابرزها:
1 ــــ تأكيد مرجعية حكومته في التعاطي مع ملف التفاوض مع تنظيم «داعش» و«جبهة النصرة»، بعدما جبه معضلتين متلازمتين: اولاهما رأيان متناقضان داخل الحكومة بين مؤيد للتفاوض ومعارض له، وثانيتهما تعدد قنوات التفاوض واسلوب التعامل معه تارة بسرية وطوراً بتسريب معلومات عن الموقف الرسمي من القنوات تلك. في رسالته الى اللبنانيين كرر سلام الموقف الذي اتخذه مجلس الوزراء برفض التفاوض، واحال اي قرار ُيتخذ في هذا الشأن على مرجعية مجلس الوزراء الذي بات يمثل مركزية سلطة التعاطي مع ملف غاية في الحساسية والدقة وتأثيره المباشر على حياة العسكريين الاسرى.
2 ــــ رفض الخوض في مبدأ المقايضة والتبادل بين العسكريين الاسرى وسجناء رومية بذريعة ان من غير المقبول اطلاق عسكري باخراج قاتل عسكري. والمقصود بذلك متطرفي «فتح الاسلام» الذين خاض الجيش معهم معركة ضارية ومكلفة في سبيل تقويض بنيتهم في المخيم دفع ثمنها 168 عسكريا بين ضابط وجندي ما بين ايار وايلول 2007.
ورغم ان المنحى المرتجى سلوكه لاطلاق العسكريين الاسرى لا يمر، في حساب حكومة سلام، بالمقايضة تلك تفاديا لفتح باب ابتزاز لا يوصد ابدا، في كل مرة اعتقل مطلوب او قاتل فيُستجار بالخطف لاطلاقه، الا ان ثمة مَن يعتقد بتسوية على غرار ما حدث مع المخطوفين اللبنانيين الى اعزاز باطلاقهم دونما الحاجة الى مقايضتهم بسجناء رومية، بل بفدية مالية، ناهيك بمطالبة الخاطفين بسجناء في السجون السورية اتاحت وساطة المدير العام للامن العام اللواء عباس ابراهيم الحصول على موافقة دمشق على مقايضة المخطوفين اللبنانيين بالسجناء اولئك. الامر نفسه بالنسبة الى اطلاق راهبات معلولا. كان من بين مطالب الخاطفين اطلاق سجناء من رومية، الا ان ابراهيم رفض الطلب، وامكن اخراج تسوية اقترن فيها اطلاق سجناء سوريين بحرية الراهبات، ناهيك بفدية مالية تولتها قطر في حادثي الخطف المتتاليين.
بالتأكيد المشكلة اليوم مغايرة. منذ ما قبل خطف العسكريين بأسابيع، شاع في وسائل الاعلام ان تنظيم «داعش» و«جبهة النصرة» يتحضران لخطف يقايضون به سجناء رومية، ولوحا بمهاجمة السجن نفسه، فأقفلت الطريق اليه نهائيا. مع ذلك، بسبب ثغر امنية اهمل سدها، تمكن مسلحو التنظيمين من خطف العسكريين. ما يقوله لبنان الرسمي هو رفض والمقايضة والفدية المالية، والتمسك باطلاق العسكريين من غير العثور حتى الآن على وسيلة التفاوض غير المباشر. ثمة وسيط سوري يعتقد انه نفسه في ملف راهبات معلولا قريب من التنظيمين ويتواصل معهما، الا انه يمثل وساطة قطر بعد رفض لبنان التفاوض المباشر. وهو ما حصل تماما مع ملفي اعزاز ومعلولا.
ما خلا اجتماعا واحدا في اسطنبول شارك فيه وزير الداخلية آنذاك مروان شربل، حاذر لبنان عبر اللواء ابراهيم التفاوض المباشر مع خاطفي اللبنانيين والراهبات السوريات، وعوّل على الوسيط السوري الذي كان يجول على رئيس الاستخبارات القطرية غانم الكبيسي او احد معاونيه لاطلاعه على حصيلة تحركه، من خلاله كان المدير العام للامن العام يطلع من الكبيسي على المعطيات تلك ويتبادل واياه لوائح المطالب والشروط.
3 ــــ ما اراد سلام قوله في رسالته الى اللبنانيين تختصره عبارة مقتضبة ودالة: لا تطلبوا ما لا يمكن ان يحدث، واذا حدث فان خطره اكبر. معادلة تعني لدى المطلعين على موقف رئيس الحكومة ان هيبة الدولة اللبنانية اصبحت في موقف محرج لا تحسد عليه: لم يعد هناك من تحت حتى تخشى السقوط.