رغم الشغور الرئاسي، لا يبدو لبنان على حافة الخطر، ليس بسبب وعي قادته وإصرارهم على حمايته، بل لأن المجتمع الدولي لا يزال يرعى البلد بجغرافيته وبنظامه السياسي وفق اتفاق الطائف وباستقراره
مع الدخول غير المفاجئ في مرحلة الشغور الرئاسي، تنصرف القوى السياسية الى التعامل مع الواقع على أساس أنه مرحلي وظرفي. لكن الخشية التي تبديها أوساط مطلعة، وعلى بينة من نقاشات أميركية وأوروبية تجرى حول لبنان، هي أن تطول مدة الشغور أشهراً عدة قد تصل الى نهاية السنة الجارية.
وتشير هذه القوى الى أن أي استعجال في إنهاء هذه المرحلة سيكون سببه مضاعفة الضغط الدولي لتمرير الاستحقاق الرئاسي، علماً بأن المطلوب اليوم للبنان الاستقرار الامني فحسب، وهذا ما هو حاصل فعلاً.
وتربط هذه الأوساط ما وصل اليه الوضع الداخلي باستعادة تكوين لبنان، كواحد من دول المنطقة التي حين تأسست على أنقاض الدولة العثمانية، لم يكن لشعوبها قرار في ترسيم حدودها ولا في نهائية وجودها. هكذا كانت حال لبنان الذي تكون عام 1920، من دون أن تتشكل معه سلطة حقيقية، فبقي «شبه دولة» موجودة بإرادة دولية وإقليمية. وهذه الارادة هي التي كانت تتحرّك يوم تتأزم علاقات القوى والأحزاب والمكونات اللبنانية، بعضها مع بعض، عبر حروب كبيرة أو صغيرة، أو حين تتضارب مصالحهم، فيلقون أعباءها على المجتمع الدولي والإقليمي لحماية وجود لبنان.
منذ 1920 حتى اتفاق الطائف وما بعده، ظلت هذه الإرادة الدولية العين الساهرة على لبنان «شبه الدولة»، الذي رغم الحنين التاريخي اليه والى مكوناته الثقافية والأدبية والفنية، ظل عاجزاً عن تكوين السلطة بمفهومها الحقيقي. ولعل أفضل ما حصل للبنان بصيغته وحدوده هو هذه الرعاية، إذ لو ترك للبنانيين اليوم قرارهم، لكانوا اتخذوا خيارات أخرى مختلفة تماماً، وهو ما تعبّر عنه حتى الآن معظم القوى السياسية ــــ إن لم يكن كلها ــــ في نقاشاتها الداخلية بعيداً عن الشعارات الاعلامية.
المشكلة الاساسية التي يعاني منها لبنان اليوم، وعانى منها في الأمس القريب، هو أنه في كل مرة تسعى القوى المحلية الى إنجاز استحقاقاتها بترتيبات محلية صرفة، أو تحاول خلق دولة بين ليلة وضحاها، وفرض وجودها إقليمياً ودولياً، تصاب بالإحباط حين تصطدم بالأمر الواقع الذي يحدد لها مسار حركتها. وهو المسار الذي كانت تحصل على أساسه الانتخابات الرئاسية، والى حد كبير الانتخابات النيابية.
بهلوانيات
داخلية سعت الى التمديد للرئيس
في الاعوام العشرة الاخيرة، حصل اللبنانيون على فرصتين لوضع لبنان على السكة لتركيب نظام سياسي. الاولى مع انتخابات عام 2005 التي كان يمكن أن تنتج شكلاً جديداً من المجالس النيابية، إلا أنها جرت على قاعدة «النكايات» المحلية، فذهب الجميع الى انتخابات «بالتي هي أحسن» على أساس قانون غازي كنعان. كان يفترض أن ينتخب اللبنانيون في ذلك العام مجلساً نيابياً ينتخب رئيس الجمهورية، خلفاً للرئيس إميل لحود، لكن ما حصل هو العكس تماماً. انتخب اللبنانيون النواب الذين لم ينتخبوا الرئيس المقبل، فحصل الفراغ الرئاسي، الى أن عاد النواب أنفسهم فانتخبوا الرئيس «المعيّن» ميشال سليمان.
في عام 2008 تكرر الأمر نفسه مع اتفاق الدوحة. وهذه المرة وقع المسيحيون في فخ الشخصنة التي طغت على الرغبة في إنتاج سلطة لبنانية برعاية دولية. فاستعاد المسيحيون قانون 1960، وكأنهم يستعيدون الحنين الى مرحلة الستينيات التي أقرّ فيها. ولأنهم فكّروا بمسيحيتهم فحسب وليس بوطنيتهم، أقروا قانوناً للانتخابات أنتج مجلساً عام 2009 لا يعكس الصورة الحقيقية للبلد.
لم يكن المجلس النيابي الحالي مخولاً انتخاب رئيس للجمهورية في عام 2014، إلا أن ذهاب المسيحيين الى مغامرة القانون الانتخابي المعروف بالقانون الأرثوذكسي وما رافقه، ساهم في التمديد لهذا المجلس الذي يرجح أن يمدد له ثانية، وقبل انتهاء ولايته الممددة حالياً، كي ينتخب أيضاً الرئيس المعيّن.
اليوم، مع الشغور الرئاسي، ثمة نزعة الى تكبير الشعارات التي تتناول الاستحقاق الرئاسي، تارة بالحديث عن إعادة رسم الجغرافيا التي أرساها اتفاق سايكس بيكو، وتارة برسم الشرق الاوسط الجديد، أو حتى بالكلام عن إعادة النظر في النظام اللبناني والمطالبة بمؤتمر تأسيسي وعقد اجتماعي جديد أو أقله تعديلات على الطائف.
المشكلة أن هذا الكلام يخفي في طياته عجزاً داخلياً عن مقاربة الملفات الداخلية برميها على القوى العظمى. لقد حمت الدول الاقليمية والدولية الدولة اللبنانية وأوقفت الحرب ورعت اتفاق الطائف الذي أرسى النظام اللبناني الجديد، لكنها ليست هي التي صنعت الخلل في تطبيقه على مدى الاعوام الماضية. وهي حتى الآن لا تزال ترعى هذه الدولة أو ما تبقى منها على الاقل حتى تاريخه، بنظامها الحالي، أي وفق الطائف، وجغرافيتها. حتى إيران التي كانت يوماً في صلب النقاشات حول تغيير أساس النظام الحالي المثالثة، صرفت النظر عن طرح المؤتمر التأسيسي، بعدما اصطدمت الفكرة إقليمياً ودولياً بممانعة واسعة.
لكن المفارقة أن بعض القوى تذهب اليوم الى البحث في طروحات تمس بالطائف، مع أنها تخطئ حين تعتقد أن المطلوب اليوم تغيير النظام اللبناني، أو ربطه بمصير النظام السوري كشكل سلطوي. فما يرسم للبنان اليوم ليس إعادة تكوين السلطة بقدر ما هو تطبيع وضعها وتخفيف التوترات حولها.
أما انتخاب الرئيس العتيد فهي مسألة أخرى، تتعدى البهلوانيات الداخلية التي حاولت القفز على القرار الدولي بالسعي الى التمديد أو ابتداع أفكار جديدة أو حتى القيام بتحالفات ظرفية على أساس تغيير معادلات إقليمية ودولية.
لذا ينصرف الجميع الى لعبة تمرير الوقت، بأقل جهد ممكن، في انتظار القرار الاقليمي والدولي بالساعة الصفر لانتخاب الرئيس الجديد. وفي الأشهر الفاصلة عن القرار الدولي سيكون لهذه القوى أن تنصرف الى ممارسة ما هو متاح لها. وسيكون لها في أحسن الاحوال الوقت الكافي للبحث عن أفضل الطرق لارتكاب الأخطاء ـــ بعدما بلغت بمكابرتها الحد الذي أوقع لبنان مرة ثانية في شغور رئاسي بعد الطائف ـــ كما حصل في كثير من ملفات سابقة، وليس البحث عن حلول طويلة الأمد.