كلام في السياسة |
كل التفاصيل المحلية تبدو بلا معنى في المشهد اللبناني. الحكومة والمجلس واستحقاقاتهما، المياومون وتسليح الجيش وإفادات الامتحانات والامتحانات البلا إفادة، حتى عرسال وما فيها وما حولها… كلها تفاصيل في أساس الصورة. الجوهر أن صراعاً كان، ولا يزال قائماً، بين محورين اثنين.
يبدأ كل منهما من طاولة حكومة «المصلحتين لوطنين أو أكثر»، ويمتدان إلى التبانة ــــ البعل سابقاً، إلى العرسال ــــ اللبوة، قبلاً ولاحقاً، وصولاً إلى الرقة ــــ دمشق والموصل ــــ بغداد راهناً، انتهاء بالأوكرانيتين وبواشنطن ــــ البريكس. صراع «مانوي» متبادل. كل طرف فيه يحسب أنه هو كل الخير، ويصنّف خصمه فيه على أنه كل الشر. أما لماذا سيطر هذا الصراع على أوضاعنا اللبنانية، فالأرجح لأن سفير فانواتو في بيروت، يتلقّى يومياً دعوات للغداء والعشاء يفوق عددها مجموع ما يتلقاه سفراء واشنطن حول العالم في غضون سنة كاملة!
المهم أنه في ذلك الصراع الممضّ، كانت ثمة ثلاثة احتمالات نظرية. إما أن ينتصر الضاربون بسيف الأميركي، وإما أن يهزموا وينتصر خصومهم، وإما أن يذهب الفريقان إلى تسوية ما. وكان واضحاً حتى أسابيع قليلة مضت، أن خيار التسوية مستبعد من قبل الفريقين. السعودي كان يبشّر رعاياه الإقليميين بأنه سيربح، وأنه مهما فعل خصومه وكابروا وتكبّروا، ثمة ثابتة ستظل قاتلة لهم، أن هناك أكثرية سنية تدين بالولاء له، وأن «في سوريا وحدها 20 مليون سنّي وليفعل الأسد ونصرالله ما شاءا»… وفي المقابل، كان الإيراني يطمئن ناسه إلى انتصار مقابل، وإلى أن الأميركيين خسروا معركتهم في المنطقة، وأن التوازن العالمي عاد عن خلل ما بعد مطلع التسعينات، وأن حلف واشنطن ــــ الإخوان قد فشل ونموذج إردوغان قد سقط، وأن المسألة لم تعد غير مرور الوقت اللازم لإنضاج النصر…
فجأة، أو على غير فجأة، جاءت «داعش» فتغيّر المشهد. كل العوامل السابقة لحدث «داعش» كانت مدعاة لقراءات متناقضة في كل من طهران والرياض: مذابح فلسطين، مأساة العراق، الملف النووي، كيماوي دمشق، فوضى بيروت، حتى جزيرة القرم أو الاحتباس الحراري العالمي، كلها كانت موضع تفسيرات متضادة بين الإيرانيين والسعوديين. وحده حدث «داعش» شكّل قراءة موحّدة، متناغمة ومنسجمة. أول حدث منذ عقود ربما، يترك ردي فعل متقاربين في العاصمتين: إنه الخطر. ورد الفعل المتقارب هذا، أو حتى المتطابق، كان هو نفسه في الدوائر الفوق العاصمتين. في العالم الإسلامي وفي أوروبا وأميركا، الموقف نفسه: «داعش» خطر أكيد وكبير. هكذا انكفأ عن واجهة الخيارات احتمال انتصار معسكر على آخر، وتقدّم احتمال التسوية. تسوية إيرانية ــــ سعودية، تبدأ بثغرة في الجدار السميك، ثم تتوسع منها. مسار تدريجي ممرحل، بسرعة مجهولة وآلية مركّبة وجدول أعمال يتم تلمسه على الطريق وبأهداف نهائية تتبلور أثناء السير… المهم أن خيار التسوية بات على الطاولة. ترعاه واشنطن وموسكو وأوروبا وكل العالم، تحت عنوان الحرب على الإرهاب.
لكن للتسوية عوارضها السلبية أيضاً، أقله لبنانياً. الإيراني، على ما يبدو، ليس متحمساً للعب ورقة التسوية مع السعودي. فهو يعتبر أن الرياض مجرد وكيل وأن أوراقها متآكلة وأن قدرتها على المبازرة محدودة. يتطلع الإيراني إلى لعب ورقة التسوية على رأس «داعش» مع واشنطن مباشرة. ولذلك فهو يفضّل الانتظار. أقله حتى ما بعد تشرين الثاني، موعد الاستحقاق التفاوضي بين طهران وواشنطن. في المقابل، يراهن السعودي على الخروج رابحاً من سياق التسوية تلك. فهو يعتبر أن الأميركي لن يتهور في الذهاب إلى توجيه ضربة إلى «داعش» بقواه الذاتية. كما يدرك أن منطق المنطقة لا يسمح لقوة شيعية بتوجيه ضربة إلى قوة سنية. ثم إن جدلية التوازن، تفترض حاجة الأميركي إلى ما يسمى «السني المعتدل» في مواجهة «السني التكفيري». وتلك الحاجة ستكون قصوى لحظة المعركة وخلالها. فضلاً عن استمرارها بعد المعركة لاستيعاب ذيول الضربة وتداعياتها. يراهن السعودي إذن على أنه سيكون هو المستفيد من الحرب الكونية ضد «داعش»، لا خصومه. وبناء عليه يحسب أنه قادر على الانتظار وعلى إعطاء الكثير من الوقت لوقت المحرجين والمضطرين.
هذه المعادلة الانتظارية هي ما يحكم لبنان اليوم. في كل تفاصيلها ومواقفها. وهي مفهومة إلى حد كبير. الفريق الحريري يعتقد أنه يمكنه الانتظار في ملفات عرسال، والرئاسة، والانتخابات النيابية. فالإيقاع سعودي بامتياز. إيقاع مبني على وتيرة يقظة البعض هناك، وساعات وعيه وإنتاجية هذا الوعي. لكن الأخطر هو ما أضافه أخيراً فريق فؤاد السنيورة إلى تلك المعادلة الانتظارية. فعلى قاعدة أن التسوية المقبلة ستكون لمصلحة السعودي ضد «داعش»، وعلى قاعدة أن هذه التسوية سترجح كفة الرياض في بيروت وفي استحقاقاتها المختلفة، يبدو أن فريق السنيورة يحاول دسّ بندين إضافيين إلى رهان قطع الرؤوس السياسية الذي يلعبه. وضع «داعش» في خانة حزب الله، على قاعدة أن ولاية الفقيه مثل الخليفة الوهابي، والتهويل على المسيحيين بتصنيف التكفيريين، على قاعدة أن من أحرق علم «داعش» في الأشرفية مثل «داعش» تماماً. رهانان انتحاريان أقدم عليهما فريق السنيورة، بخلفية الوهم بضرب «داعش» وحزب الله وخصومه المسيحيين معاً… غير أن ما يطمئن أن تاريخ السنيورة مليء بالرهانات المماثلة. منذ وقف في وجه إيلي حبيقة في إحدى جلسات مجلس الوزراء، مروراً بوقوفه في وجه رواتب الجيش قبل أن «يزوره» ممثل إميل لحود في وزارة المالية،، انتهاء بقبلاته لكوندي في حرب تموز. الرهانان خطيران، لكن تاريخ الرجل مطمئن.