IMLebanon

روسيا خسرت ربيعها… وبوتين نجح

منذ الخريف الماضي وموضوع أوكرانيا يتصدّر نشرات الأخبار والصحف، وأخطر تعرّجاته هو الصراع الدامي في شرق أوكرانيا في محافظتي دونيتسك ولوغانسك الذي أودى بمئات الضحايا والجرحى والنازحين والمشرّدين. جمهوريتا لوغانسك ودونيتسك الشعبيتان لم تظهرا الى العلن، كذلك لم تقحم روسيا جيشها في الشأن الأوكراني.

على رغم صعوبة استخلاص النتائج والعبر بعيد نحو عشرة أشهر من الصراع، إلاّ أنّه لا بدّ من وضع خطوط عريضة لتطوّر الأمور وإحتمالات المستقبل، باعتبار أنّ هذه الأحداث فتحت شهية الجميع نحو التوسع ونسف أطر العلاقات التاريخية الأخوية التي كانت عنواناً لتقاليد تاريخية عمرها قرون، وفجّرتها نزعات وتوجّهات وأطماع تحت هذه الحجج أو تلك.

كان في الإمكان معالجة القضايا بالعقل والتروّي والعقلانية، وفهم أوسع أنّه للقوميات والاثنيات الصغيرة التي تتشكّل منها روسيا الاتحادية وما كان يُسمّى بالاتحاد السوفياتي حقوقاً مكتسبة في تطوير ثقافتها ولغاتها والتصرّف بثرواتها، وإن تحت عباءة الفيدرالية الروسية المترامية الأطرف بدءاً من موسكو وصولاً الى يركوتييه.

بدايةً، إنّ أكبر المصائب التي حلّت على المتن التاريخي الذي تشكّلت منه أمجاد الامبراطوريتين الروسية وبعدها الحقبة السوفياتية، كان التهليل والتمجيد الذين روّجت لهما النخب في المجتمع الروسي، كذلك القيّمون على الإعلام لفكرة التوسّع نحو أوكرانيا وغمزاً نحو بيلاروسيا، والتي قدّمت في سبيل ذلك كلّ ما يمكن من تبريرات وحجج حول «الروسنة» والتفوّق العرقي الروسي على سائر الشعوب الاخرى التي مبعثها التاريخ والادب والفنّ والفلسفة وخلاف ذلك، مرتكزةً في حملاتها تلك على أمور عدة:

– أولها «النوستولجي»، الحنين نحو بعث الإتحاد السوفياتي بأشكال أخرى وكمرحلة أولية الاتحاد بين جمهوريات روسيا الاتحادية – أوكرانيا -بيلاروسيا وكازاخستان. من هنا أتت رغبة كييف بالتوقيع على حقّها في الإنتماء الى السوق الأوروبية والاتحاد الأوروبي لتشكّل لهؤلاء الطامحين صدمة وتهديداً فعلياً لأحلامهم، معتبرين ذلك توجّهاً أرعناً ضدّ المصالح الروسية.

ثانيها: «الجيوسياسي»، وهي تقوم على فكرة أنّ العالم قائم على مجموعة تقاسم مصالح ونفوذ، وأساس هذا التقاسم هو القائم بين الولايات المتحدة وخصمها التاريخي بعيد الحرب الثانية الإتحاد السوفياتي واليوم روسيا. من هنا اعتُبرت الثورة البرتقالية في أوكرانيا انقلاباً على السياسة الروسية، والباعث الثاني منع وصول الناتو الى حدود روسيا مباشرة.

ثالثها: «القومي» الهدف منه حماية الأقليات التي تتكلم اللغة الروسية في أوكرانيا التي تتعرّض لكلّ أنواع الالحاق والاضطهاد والابعاد، فقامت كل الحملات من أجل تعزيز المجتمعات الروسية أينما وُجدت والدفاع عن وجودية هؤلاء.

وإذا نظرنا الى هذه القواعد الثلاث فإنّ أيّاً من هذه الأهداف لم يصل الى مبتغاه بل بالعكس، فروسيا خسرت في القواعد الثلاث وجاءت النتيجة معاكسة تماماً للأهداف المرسومة.

ليس صحيحاً أنّ أوكرانيا فشلت في تحقيق أهدافها بالانتماء الى الاتحاد الأوروبي، بل إنّ النزعة نحو إنجاز هذا الهدف تعمّقت وزادت رغبة الاوكرانين في تحقيق الهدف، كما أنّ الاتحاد الجمركي الذي عقد عليه الآمال مع بيلاروسيا وكازاخستان بات هيكلاً من دون أعمدة، بدليل عدم التزام بيلاروسيا في تحقيق رغبات القيادة الروسية بمنع تصدير المنتجات الزراعية والحيوانية نحو اوكرانيا والسوق الاوروبية، وكذلك الحال لدى الطرف الكازاخستاني تحت شعار التضامن في وجه العقوبات الغربية بحقه.

ليس صحيحاً أنه يمكن للبعض من ثوّار الميدان الالتحاق بالغرب إذا ما دغدغت الفكرة رأسه، وجعلها اولوية والترويج لها… إنّ ذلك لأمر يحتاج الى خطوات وتحوّلات كبيرة صعبة المنال بين ليلة وضحاها.

لقد اخطأت الرؤوس الحامية لدى القوميّين الروس وبعض حلفائهم في ادارة بوتين في موسكو باعتبار ما جرى في كييف انقلاباً معداً من الولايات المتحدة الأميركية وأدواتها المحليين، إذ يستحيل حتى على رجالات أميركا في أوكرانيا فضّ كل العلاقات الاقتصادية والثقافية مع روسيا، بل إنّ جلّ طروحاتهم كانت تتركز على دوزنة العلاقات والمصالح بين موسكو وواشنطن.

وهذا ما عبّر عنه بوروشينكو في أكثر من مناسبة. لكنّ الحملة الهستيرية «القومجية» والعنصرية دفعت بالكثيرين في أوكرانيا الى تبنّي فكرة اقامة قاعدة عسكرية للناتو لحماية البلاد قرب مدينة بيلغورود، رداً على ما أسموه الحرب على وحدة البلاد فسقط الاثنان في الامتحان وسالت الدماء.

الأمر الثاني لم تحقق حملة حماية الناطقين باللغة الروسية أيّاً من أهدافها بل أتت بنتائج دراماتيكية، فهي قضت على مئات الضحايا في صفوف الشعبين الشقيقين، وهجّرت مئات الآلاف، وحملت معها الدموع والخوف والقلق.

إذاً كلّ هذه النتائج السلبية كانت هي النتيجة الفعلية لموجة تسعير الشعور القومي لدى الجانبين، فإنّ البعض وعلى رغم الخسائر الجسيمة يهلّل لنتائج يعتبرها تاريخية هيومانية، ومنها مثلاً انجاز ضمّ القرم الى الحاضنة الروسية. هذه النتيجة أيضاً مشكوك بدقتها في اعتبار أنّ كييف ستطعن بعملية الضمّ في المحاكم والمؤسسات الدولية، ثانياً أنّ أحداً من العالم لم يعترف حتى الآن بقانونية هذه الخطوة.

يهلّل البعض الآخر من المتفائلين بأنّ روسيا عادت قوة عظمى واستعادت دورها التاريخي فأضحت أعظم وأقوى حتى من الاتحاد السوفياتي، والمؤسف أنّ جوقة المهلّلين هي يسارية ماركسية تعتبر بوتين لينيناً ووزير دفاعه شايغو المارشال جوكوف، لكن شتان ما بين المرحلتين.

هذه النظرة العدمية تسقطها جملة وقائع أبرزها أنه للمرة الأولى تشعر الطبقة الحاكمة في روسيا أنها تتعرض للاهتزاز، وعلى رغم أنّ بوتين قد يحكم روسيا عقداً آخر من الزمن، إلاّ أنّ نتائج الحصار والعقوبات الاقتصادية وغيرها لن تجعله هانئاً مستقراً، بحيث يتجه المراقبون الى اعتبار روسيا ستشهد أوسع موجة فلتان للنزعات العنصرية التي عرفتها في تاريخها بحق الشعوب الشقيقة ولم تؤازر بوتين في تحقيق أحلامه الإمبراطورية.

يمكن القول إنّ أحلام التحوّل نحو «أوروبة» المجتمع الروسي التي إنطلق منها بوتين في بداياته السياسية بعيد استلامه السلطة وتابع منهجه نائبه ميدفيديف، باتت اليوم بحكم المنتهية. لقد أنتج هذا السلوك وأخرج كلّ المخاوف وكلّ «الفوبيات» الكامنة.

لقد خسرت روسيا احتمال سلوكها طريقاً تجعلها قوية بجبروت اقتصادها وليس بجبروت قوّتها العسكرية، ستخسر روسيا الإصلاحات والتحوّلات نحو المجتمع المتعدّد والمتنوّع ونحو ربيع روسي حقيقي، وسيربح واحد أوحد هو بوتين الشخصية التي ستبقى عرضة للنقاش والنقد على امتداد عقود وعقود من الزمن.