IMLebanon

رياض سلامة : نقاط القوّة والضعف

رياض سلامة حالة نادرة واستثنائية في تاريخ لبنان الحديث. هذا الرجل الذي أتى منذ عشرين عاماً في مهمة «انقاذية» لا يشبه أحداً من المسؤولين الذين تعاقبوا وتغيّروا خلال عهود رئاسية ثلاث فيما بقي هو ثابتاً في موقعه ودوره.

الرئيس الشهيد رفيق الحريري كان يبحث عن رجل يقيم الوضع المالي من عثراته بعد حرب طويلة، ويضع الأسس لاستقرار نقدي يواكب اعادة البناء ويترافق مع تثبيت السلم الأهلي والانطلاقة السياسية مع اتفاق الطائف. رياض سلامة كان الرجل الذي يحتاجه لبنان. واختاره الرئيس الشهيد الحريري رحمات الله عليه وكان خياراً ممتازاً ومميزاً وفي مكانه.

لم يحدث في لبنان ان مسؤولاً كبيراً واساسياً في الدولة حاز على إجماع وطني على المستويين السياسي والشعبي بحيث يصبح استمراره مطلباً عاماً وضرورة ملحة وحاجة وطنية، ولا يكون له منافس أو منازع.

ولم يحدث في لبنان ان مسؤولاً رسمياً حاز على ثقة اللبنانيين مثلما حصل مع رياض سلامة. ثقة عميقة راسخة « مستدامة». لا تتغير ولا تتحرك صعوداً وهبوطاً تبعاً للظروف والأهواء. في لبنان مسألة الثقة مهمة جداً أو نادرة الوجود واللبنانيون لا يمحضون ثقتهم بسهولة لأي مسؤول إلا بعد تجارب واختبارات مضنية. من الممكن ان يحبّوا أو أن يحترموا مسؤولاً أو أكثر، ولكن من الصعب ان يثقوا بأحد وان يمضحوه « ثقة عمياء» تصل إلى حد اعطائه تفويضاً مطلقاً في المسؤولية المعهودة إليه والمرفق المناط به.

هذا ما حصل مع رياض سلامة هذا الرجل الذي اجمع عليه اللبنانيون على انه «صمام الأمان المالي» والذي أحبه الفقراء والناس العاديين أصحاب الدخل المحدود واحترموه ووثقوا به. وكان بالفعل شخصية عابرة للطوائف والمناطق لأنه عمل بكل تجرد وفي أصعب الظروف من اجل المصلحة الوطنية متجاوزاً ومتجاهلاً المصالح الفئوية والحسابات السياسية والطائفية الضيقة… وهذه «الثقة الغالية» لم تأتِ من فراغ وانما من رصيد راكمه سلامة على مر السنوات ومن تجربة في حاكمية مصرف لبنان، كانت غنية بالنجاحات والانجازات، ووضعته في مصاف «رجال الدولة».

عندما تسلم رياض سلامة مصرف لبنان ومسؤولية صياغة وإدارة القرارات والسياسات النقدية والمالية، كان الاضطراب النقدي في أوجه من جراء تهاوي وضع العملة الوطنية وكان القلق ينهش عقول اللبنانيين ونفوسهم. ولكن لم يتأخر الوقت حتى أرسى سلامة دعائم الاستقرار النقدي وأقام فك ارتباط بين الوضع النقدي والمالي من جهة والوضع الأمني والسياسي من جهة ثانية، فكان الأول ثابتاً ومستقراً مهما بلغ الثاني من تقلبات وأزمات. ولذلك ما عاد اللبنانيون أصحاب الدخل المحدود والطبقة المتوسطة والموظفون يقلقون على مدخراتهم، ولا أصحاب رؤوس الأموال والأغنياء يقلقون على أموالهم وودائعهم ولا يهربونها إلى عملات أجنبية أو مصارف أجنبية كل مرة حدثت أزمة أو انتكاسة، وباتوا يشعرون بأن وضعهم النقدي مصان وان الحماية متوافرة لنظامهم المالي والمصرفي…

أقام رياض سلامة وضعاً نقدياً آمناً ومستقراً وبيئة حاضنة وجاذبة للاستثمارات وحقق انجازاً في المعادلة اللبنانية. وأصبح المصرف المركزي عنواناً للقرار والاستقرار والازدهار المالي. وكذلك المؤسسات التابعة له، وكما استطاع وعلى رغم الاحوال السياسية الصعبة، الاتيان بالرجل المناسب في المكان المناسب. فالميدل ايست مثلاً وعلى رأسها محمد الحوت هي اليوم من أهم وأنجح الشركات على الاطلاق، وهي شركة رابحة رغم الوضع الأمني المهتز، وكذلك مؤسسة انترا وعلى رأسها محمد شعيب وجميع المؤسسات التابعة لها من كازينو لبنان إلى بنك التمويل وغيرها بحيث تحولت هذه المؤسسات إلى مؤسسات تنمو وتضخ دينامية حيوية ومالية في اقتصاد الوطن وهذا يعود الفضل فيه إلى الادارة الجيدة للقيمين عليها والتي يشرف عليها رياض سلامة ومصرف لبنان ويعطيها كل الدعم اللازم.

حاكم مصرف لبنان الذي حاز لأكثر من مرة وعن استحقاق وجدارة لقب «أفضل حاكم بنك مركزي في العالم» بات مثالاً يُحتذى به عند حكام مصارف مركزية عربية وحتى دولية، نجح في جعل القطاع المصرفي أفضل القطاعات العاملة والمنتجة في لبنان ولأن يصبح ركيزة الاقتصاد الوطني وعموده القوي، لا بل جعل من المصارف اللبنانية رائدة الصناعة المصرفية في المنطقة وعامل جذب للأموال والرساميل والاستثمارات. فظل القطاع المصرفي قطاعاً منيعاً محصناً ضد كل انواع المحاربة والضغوط والشكوك وضد كل انواع الأزمات المالية العالمية التي ضربت أعتى الاقتصادات واقواها ولكنها لم تنل من النظام المالي والمصرفي في لبنان الذي ويا للمفارقة هو نقيض للنظام السياسي الهش والضعيف والفاسد في لبنان.

من ينجح في إدارة أهم مرفق حساس وحيوي في الدولة وفي ان يكون حاكماً ناجحاً لمصرف لبنان في أصعب وأحلك الظروف وأخطرها وأدقها يسهل عليه إدارة كل المرافق ويمكن ان يكون رئيساً ناجحاً للبنان. وبالتالي فانه من الطبيعي ان يكون اسم رياض سلامة مطروحاً كمرشح جديّ على لائحة المرشحين التوافقيين وان تكون أسهمه مرتفعة في البورصة الرئاسية، لأنه يتمتع بثقة اللبنانيين أولاً وبتقدير واحترام كل القوى السياسية ثانياً ولأنه بات عنواناً للاستقرار الاقتصادي والمالي ثالثاً. وهذا الاستقرار الاقتصادي يتفاعل مع الاستقرار العام، الأمني والأجتماعي، ويُعد من مكوناته وفي أساسه.

ولكن نقاط القوة هذه يمكن ان تشكل في حد ذاتها وفي وجهها الآخر نقاط ضعف عند رياض سلامة. فثقة الشعب اللبناني تشكل ثقلاً ورصيداً معنوياً ولكنها لا تُحتَسب من العناصر التي تصنع رئيس الجمهورية في بلد رئيسه لا ينتخب من الشعب وانما تنتخبه جملة عوامل وتوازنات ومصالح داخلية وخارجية متداخلة ومعقدة… والسياسيون، احزاباً وقيادات، لا يمكن الركون إليهم، كون مصالحهم وارتباطاتهم الخارجية هي التي تحدد خياراتهم الرئاسية وموقفهم من المرشحين للرئاسة، وليس مكانة وقيمة المرشح وحجم التقدير والاحترام اللذين يحظى بهما ويتوافران له. فاذا كان رياض سلامة تربّع لسنوات طويلة على كرسي الحاكمية فلأنه كان حاجة للطبقة السياسية الحاكمة، وهو يلعب خارج ملعبها ويساهم من خلال سياسته المالية والنقدية والمصرفية في الحفاظ على الاستقرار المالي وعزله عن المؤثرات والأزمات وهذا يصب في مصالح هؤلاء السياسيين.

لكن عندما يصبح رياض سلامة متربعاً على كرسي الرئاسة فهذا موضوع آخر في عقل هذه الطبقة السياسية ويُقابل منها بموقف آخر، فعندما يصبح سلامة لاعباً رئيسياً ومحورياً في ملعبها يمكنه عندها ان يشكل عامل تضييق على مصالحها وان لا يكون منسجماً مع قواعد اللعبة السياسية المحددة من قبلها، خصوصاً إذا أراد في رئاسة الجمهورية تطبيق المعايير والقواعد التي طبقها في حاكمية مصرف لبنان والتي أدت إلى نجاح السياسة المالية في البلاد…

وأما الاستقرار الاقتصادي الذي يعد في نظر كثيرين الورقة الرابحة التي يلعبها سلامة أو تُلعب لمصلحة ترشيحه وانتخابه رئيساً توافقياً، فانها في نظر البعض الآخر ليست ورقة تحسب له وتعزز حظوظه للرئاسة، وانما تصب في غير مصلحته وتضعف فرصه وتشد به إلى الوراء. واستناداً إلى هذه المعادلة والتي تقول بكل بساطة ان الاستقرار الاقتصادي لا يقل أهمية عن الاستقرار الأمني والسياسي، وان الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي كحاجة وضرورة وطنية ومجتمعية لا يتأمن من دون استقرار مالي ونقدي ومصرفي ومن دون سياسات وخطط مدروسة وصحيحة. وكل ذلك لا يتأمن إلا من خلال رياض سلامة واستمراره في الموقع المالي والاقتصادي الأول وحتى اشعار آخر وطالما تقتضي الحاجة ذلك وإلى أن تستتب الأوضاع السياسية والأمنية.

أي بمعنى آخر فان السياسيين والنواب وأصحاب القرار والنفوذ يتوجهون إلى رياض سلامة بالقول: نحن نحتاجك في موقعك «حاكماً لمصرف لبنان ولا نستغني عنك وعن خبراتك وكفاءتك وصدقيتك… أما في رئاسة الجمهورية فهناك خيارات وبدائل عديدة ويمكن تدبّر الأمور والاتيان برئيس جمهورية من بين شخصيات وأسماء كثيرة مطروحة. لكن على المستوى النقدي وعلى مستوى حاكمية مصرف لبنان وفي ظل الوضع الاقتصادي الصعب الذي نعيشه فالخيارات ضيقة جدا مما يجعلك حاجة وطنية على المستوى النقدي، كما انه ليس باستطاعتنا المخاطرة في هذا المجال لأن الوقت ليس وقت «اختبار» اشخاص وكفاءات جديدة في المجال النقدي والمالي أقله في المرحلة الراهنة وفي ظل أوضاع اقتصادية واجتماعية وسياسية حساسة ودقيقة.

المرحلة الآن في لبنان، المحاط بأزمات المنطقة بدءاً من الأزمة السورية، والتي تلفحه عواصف «الربيع العربي» وتحولاته والتصادم الحاصل بين « الديمقراطية والأرهاب» وبين صعوبة المسار للانتقال إلى انظمة ديمقراطية، هذا «اللبنان» يمر في مرحلة امنية خطيرة ومرحلة سياسية معقدة وهو بعيدٌ كل البعد عن المرحلة الاقتصادية التي لم يحن أوانها بعد وربما ننتظر دخول لبنان في عصر النفط والغاز كدولة منتجة ومصّدرة… واذ ذاك نكون بحاجة إلى رؤساء بمواصفات رياض سلامة «رجال دولة وإعمار واقتصاد».

في الختام هل يكون رياض سلامة الرئيس الجديد وهل ترسو الصراعات والخلافات والاضطرابات السياسية على رئيس « الاستقرار الاقتصادي» ؟

لننتظر ما سيحدث في أسابيع وأشهر الفراغ المقبلة وإلى أين ستؤول الأوضاع وعلى أي رئيس سترسو الخيارات والقرارات؟

رياض سلامه رئيساً للجمهورية… هذا ما ستثبته الأيام المقبلة.