«سبق لسان»، «هفوة»، «تركيبة»، «غاية في نفس يعقوب…». هذه ليست المرّة الأولى التي ينجح فيها النائب وليد جنبلاط في إيقاع القريبين والبعيدين منه في حيرةٍ من أمرهم. فلم يَكد يُكمل ترحيبَه برئيس البلاد «العماد ميشال عون» حتى توالت التفسيرات والتأويلات حول التوقيت المشبوه لـ»الزلّة الجنبلاطية»، خصوصاً أمام خطاب مكتوب وليس مرتجلاً. أبعد من تلك التفسيرات والتأويلات، لماذا لمَس جنبلاط شاربَيه وأطبَق يدَه، بعدَها أمسكَ ملفّه بكلتا يديه؟ طالما يحلم بالعماد ميشال عون… «مِش تَ يجي».
بيضة قبّان، موالٍ في المعارضة ومعارض في الموالاة، ينظر إلى المستقبل بعين الماضي… تتعدّد العبارات التي تقترن بإسم رئيس «جبهة النضال الوطني» النائب وليد جنبلاط، وجاءت زَلّة لسانه في اختتام جرح بريح لتزيد قائمة تلك التوصيفات، وتفتح باب التأويلات على مصراعيه.
وفي هذا الإطار، توضح الاختصاصية في علم النفس ولغةِ الجسد الدكتورة ليلى شحرور أنّ «ما حصل مع جنبلاط، ظاهرةٌ تُعرَف بالزَلّة الفرويدية، وهي هفوة تصدر عن اللاوعي أو العقل الباطني، وعند حدوثِها يبدأ صاحبُها بتقويم زَلّته بمعلومات غير مطلوبة، قد يبالغ فيها أحياناً، حتى يُخفي ما يقصده. فيُسهب في الحديث، فيما المطلوب منه إجابة مقتضَبة تُجنّبه الأثمان».
وتولي شحرور في حديثها إلى «الجمهورية» أهمّية أكبر لردّة فعل جنبلاط من زلّة لسانه، نظراً إلى ما تحمله من دلائل نفسية وإيماءات جسدية، فتقول: «غالباً ما تولّد زلّات اللسان موجة تناقضات وارتباكاً لصاحبها، فتنكشف الفروق الموجودة في الخطاب بين المعلن والمضمَر. إلّا أنّ لغة الجسد تُقدّم معرفة مُذهلة حول المشاعر الحقيقية على رغم محاولة المتحدّث تمويهَها بكلماته».
وتوضح شحرور تداعيات زَلّة اللسان، قائلة: «ينتج عنها كلامٌ مُلتوٍ، متناقض، نظراً إلى اضطراب مرتكبها وارتفاع نبرةِ الصوت في آخر الكلام». وتعتبر أنّ هذا السيناريو ينطبق فعليّاً على ما حدث مع جنبلاط، متوقّفة عند التبرير الذي أطلقه، «هيدي غلطة، هيدي غلطة، على كثرة ما عمّ نحلم فيه بالليل مِش تَ يجي». وتضيف: «نلاحظ ارتفاعاً في نبرة صوتِه في نهاية الجملة، تقطّعاً في أنفاسه، وتشديداً على كلمة «منِحلم فيه»، ما يعني أنّ العماد عون يشكّل هاجساً بالنسبة إليه، إذ إنّ الطريقة التي نطقَ فيها تحمل الأهمّية الكبرى في الجملة».
ذروة التناقض
وتلفت شحرور إلى ذروة التناقض التي تجلّت في خطاب جنبلاط، قائلةً: «إذا كان جنبلاط يحلم بالعماد عون ليلاً. فلماذا ناقضَ نفسه قائلاً: «مش تَ يجي». وتسأل: «كيف نحلم بشخص وفي الوقت عينه لا نريده؟ ما يشير إلى أنّ جنبلاط في كابوس، وإذا تأمّلنا في إيماءاته في تلك اللحظة نرى أنّه سارَع إلى ملامسةِ أنفِه بيدِه اليمنى، واستخدمَ اليد الآمرة، ما يعني أنّ هناك شكّاً في كلامه، ونيّةً ضمنية، أو حتى نوعاً من المشاورات، أو شعوره بالضغط نتيجة اقتراح مطروح. فهو لم يستخدم اليد المفتوحة التي تُعبّر عن النفي، إنّما استخدم اليد المطبقة المتوجّهة نحو الأرض، اليد الآمرة، ما يعني أنّ النفي غير صحيح وكلامه يناقض لغة يده. وتشير حركة يده إلى أنّ رأيه مُهمّ جدّاً، وهو في مكان يخوّله فرض رأيه في إختيار الرئيس… فنراه أقفلَ يده وأنزلها، ما يعاكس قوله».
وتلفتُ شحرور إلى ابتسامة جنبلاط، قائلة: «صحيح أنّه أثار ضحكة الحاضرين، إلّا أنّ في ضحكته نفحةً «قهرية»، لا تنمّ عن سعادة، ترجمتها عيناه الخاويتان من المشاعر، لعدم شعوره بأيّ عاطفة. لذا سارَع إلى إمساك الملفّ بكلتا يديه رغبةً منه في تخفيف إحساسه بالحرَج واستعادة توازنه».
أبعد من العفوية
من جهته، يميّز الدكتور في علم الإجتماع السياسي ميشال سبع بين نوعين من زلّات اللسان لدى السياسيّين، فيقول: «قد تأخذ منحَيين: عفويّ، نتيجة توتّر وضغوط، فلا تُكلّف صاحبها أيّ ثمن. ومُتعَمَّد، إذ إنّ السياسي، وخصوصاً مَن هو في موقع حسّاس، نادراً ما تكون زلّة لسانه عفويّة تنمّ عن رغبة صاحبها في إرسال رسالة مبهمة المضمون ومتعدّدة التفسيرات». ويوضح لـ«الجمهورية» «أنّ زلّات ألسِنة السياسيّين تشبه أمراضَهم، فإمّا يمرضون طبيعياً أو يتمارضون لغيابهم عن شيء ما أو لعدمِ ظهورهم في مشهد ما، من هنا قد تكون زلّة اللسان فعلية أو مُتعمَّدة».
بين جنبلاط والجميّل
وعمّا يميّز بين زلّة جنبلاط وزلّة الرئيس أمين الجميّل، على رغم ارتكابهما زلّة اللسان عينها، يجيب سبع: «معروف أنّ جنبلاط يرسل رسائل مباشرة وغير مباشرة، لذا الأرجح أنّها ليست زلّة لسان إنّما محاولة تمرير رسالة لمن يعنيه الأمر أنّه في حال كان الثمن مقبولاً قد يقبل بالنائب ميشال عون رئيساً». ويضيف: «أكثر ما يعزّز غياب العفوية لدى جنبلاط إمساكه لأوراق بين يديه بعيداً من الارتجالية، ما يؤكّد أنّ زلّة اللسان هي أكثر من عفوية إنّما شبه مقصودة». ويذهب سبع أبعد من ذلك قائلاً: «قد يكون في كلام جنبلاط إشارة لحزب الله مفادُها أنّ بإمكانه التفاوض مقابل أخذ ضمانات داخلية تحفظ مستقبل تيمور في لبنان». ويضيف: «من هنا الفرق بينه وبين الجميّل الذي تطغى عفويته على روح التخطيط، على عكس جنبلاط الذي يسبقه تخطيطه. وقد أثبتَت الأيام أنّ زعيم المختارة يُتقن لعبة الشطرنج، وقادر على التضحية بأيّ شيء وحماية الملك في سبيل ربحه اللعبة».
لماذا لا تظهر زلّات اللسان إلّا في الفترات الدقيقة والعصيبة؟ يجيب سبع: «في زمن التوتّر السياسي يخشى الجميع على موقعِه، حجمِه، منصبِه… ما ينعكس همّاً نفسيّاً واضطراباً فكرياً، فتنتعش زلّات اللسان في هذه الفترات، كمن يريد قول شيء ولا يريد. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ زلّات اللسان المقصودة في الجوّ المتوتّر رسالةٌ مفادُها أنّ صاحبها على استعداد لما يقوله من دون الارتباط به، فيُبقي موقفَه مترنّحاً».
البيك لا ينام…
في النهاية، «تَ يجي» أو «مش تَ يجي»… يكتسب النقاش في صفوف مؤيّدي البيك منحى مغايراً. وإذا كان للبيت الدرزي خصوصيته، كذلك له حساباته، وقد أظهرَت الأحداث، أنّ حسابات البيدر غالباً ما تطابق حسابات الحقل. لذا يعتبر «الجنبلاطيّون» أنّ المسألة ليست في إسم رئيس الجمهورية، خصوصاً أنّ «البيك لا ينام أصلاً ليحلم بالاسم»… فتعبيد الطريق أمام ابنِه تيمور لم يكتمل بعد، ولا بدّ من ضمانات داخلية قبل توافرها إقليمياً.