لدى المصريين بعض الأقوال التي تعبر عن حالات معينة، ومن ذلك التساؤل: «هل نحن في حلم أم في علم»، للتعبير عن حالة من الذهول والمفاجأة. ويمكن الاستعانة بهذا القول للتعليق على ما نشهده هذه الأيام من مفاجآت تبلغ حد الدهشة، والمقصود هنا إعلان أبو بكر البغدادي الدولة الإسلامية وتنصيب نفسه خليفة للمسلمين!
وفي سعي للإضاءة على هذه الشخصية التي برزت على الساحة العربية، والتي جعلتنا نتساءل «هل نحن في حال علم أم في حلم»، سنركز على بعض ما ورد في «خطاب التنصيب».
في البداية حرص على تفويض نفسه «الزعيم الشرعي وأمير المؤمنين أبو بكر القرشي الحسيني البغدادي»، وعلى أنه «الزعيم الإسلامي الأوحد والمنقذ والمخلص للمسلمين». وفي محاولة منه لاستثارة المشاعر، قال في خطابه المسجل بالصوت فقط من دون الصورة: «السلاح السلاح، يا جنود الدولة، والنزال النزال، فإن لكم في شتى بقاع الأرض إخواناً يسامون سوء العذاب!».
ومنح البغدادي نفسه صفة السيطرة على «الجغرافية الشاملة، من الصين إلى الهند مروراً بفلسطين وجزيرة العرب والقوقاز ومن تونس وليبيا والمغرب»!
وتضمن «خطاب التنصيب» لهجة ثأرية متأصلة حيث يقول: «إننا سنثأر للمسلمين… وإن إخوانَكم في كل بقاع الأرض ينتظرون نجدتكم وسنثأر للمسلمين ولو بعد حين وسنرد الصاع صاعات والكيل مكاييل». وفي توصيف لفترة ما بعد إعلان إمارته قال: «ليعلم العالم أننا اليوم في زمان جديد وأن للمسلمين اليوم كلمة عالية مدوية، كلمة تُسمع العالم وتفهمه معنى الإرهاب».
وقسم «الخليفة» أبو بكر البغدادي العالم اليوم إلى «فسطاطين اثنين وخندقين اثنين، فسطاط إسلام وإيمان، وفسطاط كفر ونفاق». وحرص على منح الصفة الكونية لإعلان خلافته، بعدما بشر المسلمين بأنه «أصبح لهم دولة وخلافة جمعت القوقازي والهندي والأميركي والفرنسي والألماني والأوسترالي»، ودعا الجميع إلى الهجرة إلى دولة الإسلام، إذ «ليست سورية للسوريين وليس العراق للعراقيين».
هذه أبرز ملامح خطاب «أمير المسلمين الجديد»، ومن يتعمق في تمحيص بعض العبارات سيرى فيها نفحات من أسامة بن لادن، فهل أبو بكر البغدادي طبعة جديدة ومنقحة عن البن لادنية؟ فمنذ ظهور «داعش» بالطابع الاقتحامي في العراق والتعبير الحركي لـ «دولة المسلمين في العراق والشام» على كل شفة ولسان، وقد انطلقت صور الاستعارة والتشبيه بــ «الداعشيين» كالنار في الهشيم، وذلك في معرض الحديث عن هذه الظاهرة الجديدة وما ينطوي عليه الإعلان عنها في هذا الشكل، واستطراداً ماذا ستفعل العرب العاربة لمواجهة الخليفة الذي نصب نفسه أميراً على المسلمين، وبالتالي ما مصير غير المسلمين من الأقليات المختلفة.
وفي هذا السياق تناقلت وكالات الأنباء العالمية معلومات عن قيام عناصر تنظيم «داعش» بالاعتداء على الأقليات المسيحية والشيعية والأزيديين في مدينة الموصل وسهل نينوى، وعملوا على تهديم عدد من الكنائس ودمروا محتوياتها وخطفوا راهبتين وثلاثة أيتام (وفق الوكالات العالمية).
لقد تحدثنا حتى الآن عن البغدادي «النجم الساطع الجديد» في دنيا العرب والعروبة، لكن ماذا عن بغداد؟ وعن العراق؟
لقد أدت تطورات الأيام الأخيرة إلى تسريع وضع العراق عند المنعطف المصيري والخطر والاقتراب أكثر فأكثر من الانزلاق في هاوية التقسيم. ويأخذ البعض على رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي اعتماده سياسة غير متوازنة من حيث التعاطي مع الطائفتين الرئيسيتين في العراق وهما السنّة والشيعة. وعلى رغم أن المالكي اعتمد سياسة الحرباء المتلونة، والتي مكنته من البقاء في رئاسة الحكم كل هذا الوقت الطويل، إلا أن ظهور تنظيم «داعش» في هذا الشكل الاقتحامي، إضافة إلى الانقسامات الداخلية العميقة من شأنه أن يضع مصير المالكي في الميزان. ومع التشديد على أنه يتمتع بتأييد الحاضنة إيران له، فالمواجهة التي يتعرض لها حالياً أخطر من أي وقت مضى.
ولكي نفهم طبيعة بعض ما يشهده العراق هذه الأيام، لا بد من العودة إلى الغزو الأميركي في 2003، والقرارات الطائشة التي أقدم عليها الحاكم بول بريمر في حينه من حيث حل الجيش العراقي وارتكاب الكثير من الأخطاء القاتلة. فالقوات الأميركية سعت إلى تحديد خسائرها بالانسحاب من العراق تاركة عراقاً منقسماً على نفسه، ظل يتفاعل منذ أكثر من عشر سنوات، وليس بعيداً من المشهدية العراقية أن نائب الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن هو عراب تقسيم العراق وهو الذي انتزع تصويتاً جماعياً من مجلسي النواب والشيوخ بتأييد هذا المخطط.
الآن ومع دخول كردستان في الشمال العراقي في مواجهة واضحة ومكشوفة مع الحكومة المركزية في بغداد، يتخذ الصراع ذلك المنحى الخطر، بل الأكثر خطورة من ذي قبل، ويتجلى ذلك في أحد أبرز مظاهر التوتر الانقسامي والتقسيمي بين أربيل وبغداد، بسيطرة قوات البيشمركة الكردية على مدينة كركوك وإعلان ضمها إلى إقليم كردستان. ومعلوم أن مصير هذه المدينة الغنية بالنفط موضع نزاع بين الأكراد في الشمال والحكومة المركزية في بغداد. وكان لافتاً إعلان رئيس الإقليم مسعود بارزاني عن ضم كركوك إلى جمهورية الكرد، وكان حاضراً وزير الخارجية البريطانية وليم هيغ الذي لم يعلق على هذا الإعلان لا في السلب ولا في الإيجاب.
وفي الجانب الدستوري من هذه الأزمة أعلن بارزاني إلغاء مضمون المادة 140 من الدستور العراقي، وهي التي تتحدث عن مصير كركوك المعلق، الأمر الذي حمل نوري المالكي على الرد بانفعال شديد معترضاً على أي تغيير في وضع كركوك. وردت سلطات كردستان بالإعلان عن طرح الموضوع على استفتاء لتأكيد صلاحية السلطات الكردية عليها.
إن المعركة تقوم سجالاً بين بغداد المالكي التي تحذر الأكراد من مغبة إعلان الانفصال عن العراق، وكردستان بارزاني التي تصر على خوض المعركة الاستقلالية والانفصال عن سلطة بغداد نهائياً. ومهما تقلبت الظروف والأحوال، فتقسيم العراق دخل فعلياً وعملياً مرحلة متقدمة من «الواقع التقسيمي».
هذا في السياق العراقي الكردي، لكن ماذا عن السياق العام للنزاع حول واقع العراق بين هيمنة إيرانية وموقف أميركي رافض كلياً لإعادة حرق أصابعه في النيران العراقية، فيما الصراع العام في إطاريه الإقليمي والدولي يربط بين «اللدودين»، إيران والولايات المتحدة؟ ولأن الأمور مترابطة في المنطقة كما هو معلوم فمن المهم معرفة مصير العراق وتقسيمه أو وحدته الرمزية على المفاوضات الإيرانية مع مجموعة الدول الخمس وألمانيا حول الملف النووي الإيراني.
وبعد…
إن «ظهور» الإمارة الإسلامية في العراق وبلاد الشام، وبالزخم الذي تسعى فيه للسيطرة على مواقع عراقية متقدمة يطرح الكثير من التساؤلات التي تضيء على مصير العراق من جهة وانعكاس ذلك على دول الجوار.
أولاً: تتزايد المطالبة بضرورة رحيل رئيس الوزراء نوري المالكي كجزء من التسوية، والتعامل مع مكونات العراق السنّية والشيعية والكردية سواسية. لكن المالكي يرد على المطالبين برحيله، أو بترحيله بنتائج الانتخابات الأخيرة، والتي حصل فيها على أكثرية واضحة، وهذا مأزق جديد من مآزق المنطقة، المتمثل بالصراع بين «الشرعية الدستورية» و «الشرعية الثورية».
ثانياً: على الصعيد اللوجيستي والميداني تسلم العراق مجموعة من طائرات «سوخوي» الروسية الصنع، وأعلنت بغداد عن وضع هذه الطائرات في عمليات مواجهة قوات تنظيم «داعش» والقوى الأخرى المعارضة لـ «فريق المالكي». وهذا يعني على الصعيد العملي المزيد من سفك الدماء في عراق أصبح مخضباً بالكثير من دماء أبنائه وتحت شعارات مختلفة.
ونحن، بالمناسبة، في ذكرى ثورة الرابع عشر من تموز (يوليو) 1958.
ثالثاً: ما الذي يخفيه انتقال تنظيم «داعش» من العمل في سورية إلى العراق؟ هل فشل التنظيم في بلوغ التغيير الجذري للنظام في سورية، فانتقل إلى العراق وسط كلام عن أنه ربيب النظام في سورية!
رابعاً: تساءلنا في بداية المقال: هل نحن في حلم أم في علم؟ والمقصود واضح: هل ما يشهده العالم العربي هو الواقع الجديد الذي ينتظره، حيث سنرى أميراً بلا إمارة، وإمارة بلا شعب، ومقاتلين طفت عليهم اللوثه الدينية، أو غيبت العقل نهائياً عن بعض الإرهاصات التي تتزايد وتزدهر مواسمها في هذا الزمن المخزي، وليس الرديء فحسب؟!
خامساً: إن لبنان باق في عين العاصفة حيث يعلن عن أن «الأمن ممسوك ومتماسك»، وهذه أمنية الجميع. لكن، هل باستطاعة الوطن الصغير أن ينأى بنفسه فعلاً عما يجري في دول الجوار القريب منها والبعيد؟
إن لبنان ما زال جمهورية بلا رأس ولا رئيس، وليس في الأفق ما يشير إلى الخروج من هذه الدوامة الخطرة مع تواصل مسيرة تعطيل نصاب جلسات مجلس النواب المخصصة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وكانت المحاولة الثامنة منتصف الأسبوع، ويبقى الأمل معلقاً على حكومة الرئيس تمام سلام والحكومة «الائتلافية» القائمة. وحذار أي انقسام داخل صفوف وزرائها.