منذ اعتلائه سدة المسوؤلية الأولى في الكنيسة المارونية في لبنان، تحوّل البطريرك بشارة الراعي إلى شخصية مثيرة للجدل.
المطران الذي كان معروفاً بتجهمّه وتشدّده السياسي، حوّلته كرسي «انطاكية وسائر المشرق» إلى شخص آخر. لقد بدأ يتخذ من المواقف ويقيم من العلاقات والصداقات ما بدا، فعلاً، على نقيض صورته السابقة المعروفة. برزت منذ البداية رغبته في لعب دور سياسي شبه مباشر، تكراره ما كان يردده سلفه الكاردينال مار نصر الله صفير، لجهة عدم الانخراط في زواريب السياسات وتحديد الاسماء في الاستحقاقات، لم يحل دون وجود رغبة جامحة في ممارسة دور سياسي متزايد التأثير والحضور والاستقطاب.
محاولة النأي بالنفس، اعلامياً، عن الصراعات، خصوصاً داخل «البيت» الواحد، كان من قبيل تفادي الاحراجات خصوصاً حين يحتدم الصراع بين ابناء هذا البيت على غرار ما استقر منذ اتفاق «الطائف» إلى اليوم. الترفع عن السياسات المباشرة لم يمنع سلفه البطريرك صفير الذي كان يروج لهذا التوجه، وقبله كل الذين تعاقبوا على سدة الكرسي البطريركي، من أنّ يمارسوا ادواراً مؤثرة، واحياناً حاسمة، في الحياة السياسية اللبنانية. وهكذا فعل صفير الذي اطلق بيان المطارنة الموارنة الأول الذي طالب بخروج القوات السورية من لبنان بعد الانسحاب الاسرائيلي الذليل عام 2000: كأنما كان العدو الإسرائيلي يؤمن توازناً، في الداخل اللبناني، فُقد بعد تحرير معظم الاراضي المحتلة على يد المقاومة اللبنانية، وبصورة استفادت منها، بالدرجة الاولى سوريا، وبالتأكيد ايضاً، حلفاؤها في الفريق الذي حمل اسم 8 اذار لاحقاً. والبطريركية المارونية، برئاسة المطران يوسف بشارة، ودائماً برعاية واحتضان البطريرك صفير، هي من اطلق تجمع «قرنه شهوان» بعد ذلك، و«لكي يعبر المسيحيون من خلال كنيستهم» كما جرى التنظير لذلك المشروع السياسي، الذي وصف بالسيادي لاحقاً، والذي شكّل اساساً في قيام حركة وتحالف 14 اذار لعام 2005.
ليس الدور السياسي جديداً على البطريركية المارونية. بعض هذا الدور كان تأسيسياً، وأحيانا تحررياً، وكان، بذلك، تاريخياً بالمعنى الوطني والقومي ايضاً. وهو دور مستمر بالتأكيد. هذا الدور، بمعناه العام، هو ما يحاول ان يواصله الان البطريرك الكاردينال بشارة الراعي، على رغبة في التفعيل والتوسع في المديين اللبناني والشرق أوسطي، وخصوصاً بسبب الأحداث السياسية الأخيرة التي اجتاحت المنطقة.
بدأ دور المطران الراعي المثير للجدل، بانفتاحه السريع على العماد ميشال عون وفريقه وحلفائه. ما زالت بعض صوره قائمة في الجنوب حتى اليوم تعبيراً عن ترحيب القوى النافذة هناك، خصوصاً حزب الله وحركة أمل بزيارته الصاخبة الى معظم مناطق الجنوب. مهّد ذلك وسواه لتعزيز حضوره السياسي في الاحداث، وصولاً إلى الاستحقاق الرئاسي. هنا بدأت بوادر الرغبة في قول الكلمة الفصل بشأن هذا الاستحقاق. أوليس صاحب الغبطة هو الذي «أُعطى له مجد لبنان»؟ كيف لا يكون اذن هو صاحب الكلمة الاولى في استحقاق يعود، في نظام المحاصصة القائم، لابناء رعيته. يأتي ذلك في امتداد ما يطالب به العماد ميشال عون من «حقوق» كونه الاكثر تمثيلاً بين النواب الموارنة: أوليس البطريرك هو الذي يمثل كل الموارنة وعلى ضفتي انقسامهم أولاً، وبسبب تشرذمهم وعجزهم عن التوحد إزاء الاستحقاق الرئاسي، ثانياً.
حجة البطريرك، إذاً، انه يحاول تدارك ما عجز اقطاب الموارنة عن القيام به لجهة التوحد على موقف او شخص او على آلية واجراءات، وكذلك لجهة تراجعهم عن الوعود والتعهدات التي قطعوها عليه أو أمامه. في موقفه هذا تحول البطريرك، سريعاً، من طرف حليف للعماد عون، الى طرف ضاغط عليه. بدا موقفه أقرب إلى جعجع وتكتيكه الانقضاضي، منه الى العماد ميشال عون وخطته الانتظارية. اثار ذلك ارتباكاً هنا وارتياحاً هناك. اثار جدلاً عاماً ومستمراً حول اهداف الراعي واسبابه اصلاً…
في هذ الخضم جاءت زيارته الى فلسطين المحتلة. اختار، منذ البداية، نهجاً هجومياً: هو من قرر ان ينضم الى الزيارة البابوية التي تحصل في «ابرشيته». هكذا ببساطة يمكن تفسير الامور على طريقة النعامة التي اذا دفنت رأسها في الرمال لا يراها الصياد ولا تطالها بندقيته. الزيارة «رعوية» صرف. وكأن الاحتلال يقيم وزناً لمثل هذه الاعتبارات وهو الذي يمارس التمييز حتى على اليهود انفسهم بين شرقيين وغربيين، فكيف بـ«الفلاشا» منهم، ثم بالعرب اجمعين من كل الولاءات الدينية بمن فيهم المسيحيون خصوصاً.
تنطلق الزيارة من تجاهل واقع الاحتلال وثقله وعسفه واجرامه وارتكاباته لـ«ترش على الموت سُكر» من خلال الوهم والايهام بأن الشأن الديني فوق كل الاعتبارات. الاغرب ان البطريرك ينسى سريعاً، «الطابع الرعوي» لينظم لقاءات ويطلق مواقف هي سياسية بامتياز، وهي مادة جدل وخلاف، خصوصاً، ان معظم من التقاهم من اللبنانيين قد عبروا عن عدم رغبتهم في العودة الى لبنان، وأن بعضهم قد انخرط في جيش العدو الصهيوني.
لا يمكن الا للمكابرة وحدها او الغرضية، ان تنفي صفة التطبيع عن هذه الزيارة. إنها، وهذا هو الاخطر، تعيد فتح ابواب جرى اغلاقها نسبياً، في تبرير العلاقة مع العدو، فيما يواصل جيشه استعداداته ومناوراته للانتقام من لبنان وشعبه ولتهديد سيادته واستقراره وثرواته، وآخرها الثروة النفطية العتيدة.
يأتي ذلك ايضاً في امتداد ازمة سوريا، بدأت اسرائيل تحاول استثمارها على غرار ما فعلت في لبنان حين فتحت «الجدار الطيب»، وصولاً إلى اقامة جيش للعملاء واعلان دولة «لبنان الحر» من بلدة «المطلة» الحدودية المحتلة.
وصادفت الزيارة ايضاً، ذكرى تحرير معظم المناطق المحتلة، والجنوبية خصوصاً، من رجس الاحتلال: كأنها رسالة فتح صفحة جديدة مع العدو في هذا الجو العربي المضطرب والمنقسم والعاجز، وفي هذا الجو اللبناني الذي يرفع فيه البعض شعاراً إسرائيلياً صافياً: نزع سلاح المقاومة!
كان يمكن تفادي هذه الزيارة التي تضيف عناوين اخرى الى ملف الانقسام اللبناني والتي تتعارض بالتأكيد ما عبر عنه البطريرك الراعي من رغبة في انتاج رئيس «صنع في لبنان»! لا يصنع مثل هذا الرئيس إلا توافق بين اللبنانيين، وهذه الزيارة لا تسهل حصول هذا التوافق!
* كاتب وسياسي لبناني