عاد الرئيس سعد رفيق الحريري إلى لبنان حسب التوقيت اللبناني ومن بوابة لبنان، من مطار رفيق الحريري، بوابة بيروت إلى العالم وبوابة العالم إلى بيروت ولبنان. إنّها عودة أكثر من طبيعية إلى بلد يعيش أوضاعا غير طبيعية في منطقة تقف على فوهة بركان.
تأتي العودة، التي طال انتظارها، في وقت يحتاج لبنان إلى أمرين على الأقلّ. أوّل الأمرين سعد الحريري نفسه. إنّه سعد الحريري بكلّ ما يرمز إليه من أمل في مستقبل أفضل وانتماء في العمق إلى البلد وإلى اللبنانيين، الذين يؤمنون بأكثريتهم الساحقة، بالمنظومة العربية بمعناها الحضاري وثقافة الحياة والإعمار والاعتدال.
الأمر الآخر انتخاب رئيس جديد للجمهورية يعيد إلى الوطن الصغير التوازن المفقود. مثل هذا الرئيس الماروني، وهو رئيس الدولة المسيحي الوحيد في الشرق الأوسط، يذكّر كلّ من يعنيه الأمر أن لبنان ما زال يقاوم وأنّه يقاوم خصوصا التطرّف بكل انواعه. يقاوم الأحزاب المسلحّة التي هي كناية عن ميليشيات مذهبية تابعة لإيران، ويقاوم في الوقت ذاته كلّ أشكال التطرّف الذي تعبّر عنه تنظيمات ارهابية من نوع «داعش« وما شابهها من اختراعات وارتكابات لم يكن النظام السوري بعيدا عنها يوما.
غاب سعد الحريري عن لبنان ثلاثة أعوام وأربعة أشهر. كان خروجه جزءا من محاولة جديدة مدروسة بعناية لإلغاء البلد. بطلا المحاولة النظامان في ايران وسوريا اللذان قرّرا في مرحلة معيّنة، قبل اندلاع الثورة السورية، أنّه آن الأوان للسيطرة على لبنان ووضعه مجددا تحت الوصاية. قرّرا لسبب غير واضح بعد، قد ينكشف يوما، لماذا كان مطلوبا وقتذاك، في نهاية السنة ، ايرانيا وسوريا، الإنتهاء من اتفاق، له سلبياته وايجابياته في الوقت ذاته، أدّى في مرحلة معيّنة غرضا واضحا يتمثّل في استيعاب النتائج الخطيرة المترتبة عن «غزوة بيروت والجبل« التي قام بها في ايّار «حزب الله« الذي ليس في نهاية المطاف وبدايته سوى لواء في «الحرس الثوري الإيراني«.
كانت عودة سعد الحريري بمثابة انتصار على عملية الإلغاء الجديدة للبنان والتي بدأت بالإنقلاب على حكومة الوحدة الوطنية التي كانت برئاسته والتي تشكّلت نتيجة اتفاق الدوحة الذي جاء برئيس للجمهورية هو العماد ميشال سليمان وبحكومة شبه معقولة يتمثّل فيها الجميع.
لا يمكن فصل عودة سعد الحريري عن استعادة لبنان سيادته وقراره الحرّ خطوة خطوة. لا يمكن فهم عودة سعد الحريري من دون استعادة الظروف التي تشكّلت فيها حكومة «حزب الله« برئاسة نائب طرابلس نجيب ميقاتي، الذي ينتمي إلى أهل السنّة. لا يمكن تفسير عودة سعد الحريري من دون التوقف عند محطات عدّة بينها سقوط النظام السوري واضطراره إلى أن يكون تحت رحمة «حزب الله«، أي ايران، من جهة والسلاح الروسي من جهة أخرى كي يقول إنّه لا يزال حيّا يرزق. لم يعد لدى النظام السوري من دليل على وجوده سوى امعانه في ذبح السوريين والقاء البراميل المتفجّرة عليهم بشكل يومي.
أخيراً لا يمكن التمييز بين عودة سعد الحريري وتشكيل الحكومة الحالية برئاسة شخصية توافقية تضع نصب عينيها مصلحة لبنان واللبنانيين والعرب عموما. هذه الشخصية هي تمّام صائب سلام. هذه الحكومة هي في واقع الحال حكومة «ربط نزاع« مع ايران ومن يمثّلها. كان الهدف من تشكيلها حماية لبنان أوّلا وابعاده عن احداث المنطقة، خصوصا احداث سوريا والعراق.
الأهمّ من ذلك كلّه أنّه لا يمكن الفصل بين عودة سعد الحريري والحرب على الإرهاب التي اعلنها الملك عبدالله بن عبد العزيز مجددا في كلمته التي وجهها قبل أيّام قليلة إلى السعوديين والعرب والمسلمين وإلى المجتمع الدولي. كانت الهبة بقيمة مليار دولار إلى الجيش اللبناني الذي يواجه إرهابيين من كلّ نوع، حلقة من حلقات الحرب على الإرهاب التي تبنتها المملكة العربية السعودية ورعتها وذلك من أجل الوقوف في وجه «داعش« وكل ما يشبهها من قريب أو بعيد.
عودة سعد الحريري فعل مقاومة حقيقيّ من جهة وإيمان بلبنان العربي من جهة أخرى. إنّها مقاومة للذين عملوا في السنوات الثلاث الأخيرة على عزل لبنان عن محيطه العربي والحاقه بمحور مذهبي يدار من طهران.
ما زال لبنان يقاوم. الحكومة الحالية، على الرغم من كلّ ما يمكن قوله عنها، وعلى الرغم من أنّه كان يمكن أن تكون أفضل بتشكيلتها، هي حكومة مقاومة قبل أيّ شيء آخر. هذه الحكومة قاومت وما زالت تقاوم عملية الغاء لبنان التي معروف جيدا من يقف وراءها. كان تشكيلها، في الظروف التي تشكّلت بها، بمثابة دليل على أن اللبنانيين يرفضون الإستسلام لا أكثر وأنّهم مصممون على تجاوز مرحلة المخاض التي يمرّ بها الشرق الأوسط.. لا يريد اللبنانيون أن يكونوا ضحيّة مرحلة المخاض في المنطقة.
ستساهم عودة سعد الحريري في تحصين لبنان، خصوصا بعد الذي حصل في عرسال. لا شكّ أن لبنان سيستفيد إلى حدّ كبير من الدعم السعودي للجيش ولقوى الأمن التي تستحقّ كلّ تقدير في ضوء ما تقدّمه من مؤازرة للمؤسسة العسكرية.
يبقى أنّ لبنان في حاجة إلى الإنتقال إلى مرحلة جديدة وذلك على ثلاثة مستويات. الأول انتخاب رئيس جديد للجمهورية وذلك كي يتأمّن سير مؤسسات الدولة بالطريقة التي يفترض بها أن تسير عليها وفقا للدستور. والثاني ضمان أمن المواطنين العرب الذين ينوون المجيء إلى لبنان بغية تأكيد أنّهم مرحب بهم في وطنهم الثاني. أمّا المستوى الثالث فيتمثّل في البحث جدّيا في كيفية حماية الحدود اللبنانية مع سوريا التي انهارت فيها مؤسسات النظام.
حصل هذا الإنهيار لأنّ النظام الطائفي في سوريا لم يكن يوما دولة، بل كان عصابة مهمّتها محصورة، حتى السنة ، في حماية الطائفة ومصالحها، ثمّ عائلة استولت على مقدّرات البلد وثرواته.
في مناسبة عودة الرئيس الحريري إلى حيث يجب أن يكون، لا بدّ من التفكير في كيفية تطبيق القرار الرقم الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة صيف العام . اعاد هذا القرار الهدوء إلى الجنوب اللبناني الذي عانى الظلم طويلا، منذ العام عند توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم.
لماذا لا يكون تركيز على الحدود اللبنانية ـ السورية منذ الآن؟ لا لشيء سوى لتمكين أهالي المنطقة الحدودية مع سوريا من أن ينعموا بما ينعم به أهل الجنوب بفضل القرار . القرار ثمرة من ثمار «انتصار« حقّقه «حزب الله« على اسرائيل. كان حجم هذا «الإنتصار« كبيرا إلى درجة أنّه انصرف بعده إلى انتصار جديد يحقّقه على اللبنانيين ثم على السوريين داخل سوريا نفسها.
ألا يستأهل اللبنانيون المقيمون في مناطق الحدود مع سوريا، خصوصا في عرسال ومحيطها، أن يشملهم القرار أيضا؟