بعد انشغالنا بغزّة والموصل وعرسال والضجيج الكبير الذي أحدثته كلّ تلك الأحداث.. حيث أدرك الجميع بأنّ اللعب بالحرائق الكبيرة التي تدور من حولنا أدّى إلى تجاوز هذه الحرائق الحدود اللبنانية من الشرق والجنوب.. وسارع الجميع إلى عقد الإجتماعات والإتصالات وظهر جليّاً للجميع بأنّ لبنان يكاد يفقد أدنى درجات الأمان الإجتماعي والأمني بعد أن فقد الأمان الإقتصادي والسياسي..
سارع الجميع للمساهمة في إطفاء حريق عرسال وتُرِكَ الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي منفردَيْن في مواجهة التداعيات.. إذ تذكّر الجميع وظيفة الجيش في الحفاظ على الحدود ووظيفة القوى الأمنية في الحفاظ على الإستقرار في البلاد.. وبدأت أصوات الحكمة والتعقّل والحديث عن سلامة البلاد ومستقبل العباد.. ونَسِيَ الجميع العنتريات والإجتهادات والمواقف الحامية والرهانات الخاطئة..
أصبحت داعش وخطرُها الموضوع الأساس.. رغم أنّه من المستحيل أن تستطيع السيطرة في لبنان كما هو الحال في سوريا والعراق.. إلا أنّ واقع الحال هو أنّ داعش التي نتحدّث عنها الآن هي الفاجعة التي وقع فيها حكّام العراق.. إذ سقط العراق من بين أيديهم وغيّر مسار الصراع في سوريا حيث كانت العراق العمق الحقيقي والداعم للنظام السوري.. ومع سقوط الحدود العراقية السورية وهي الأساس لم يعد هناك أي قيمة للحدود اللبنانية..
دخلت المنطقة ما بعد غزّة والعراق في مرحلة الحرب على الإرهاب.. والذي تأخر الجميع لمكافحته تلبية لنداء خادم الحرمين الشريفين قبل عشر سنوات لإقامة منظومة إقليمية دولية لمكافحة الإرهاب.. إلاّ أنّ ما حدث في العراق وسقوط العراق بأيدي داعش أيقظ الدول والأحزاب التي كانت تجد في التطرّف سبباً لوجودها فأصبحت تجد فيه خطراً على طموحاتها بعد أن خسرت السلطة والمقدرات والمحافظات والوحدة الوطنية في العراق..
إنّ بين لبنان وتداعيات العراق قصة طويلة.. ففي حرب الخليج الأولى تأثّر لبنان بالحرب العراقية الإيرانية وكذلك التوازنات اللبنانية.. وظهر ذلك جليّاً في مرحلة 82 -92 حيث كان الصراع السوري العراقي في لبنان على أشدّه.. ثم كانت حرب الخليج الثانية وتحرير الكويت ومشاركة سوريا ودول إعلان دمشق في تلك الحرب مع الأميركان.. وعودة الإتفاق السوري الأميركي الذي سمح لسوريا بضرب قصر بعبدا وإخراج رئيس الحكومة العسكرية ميشال عون.. وأيضاً تجميد المرحلة الإنتقالية التي تمثّلت آنذاك بالبرلمان الواضع لوثيقة الوفاق الوطني الطائف والممدّد له لمرحلة انتقالية بولاية كاملة بعد تعيين نوّاب بالأماكن الشاغرة والمستحدثة 108 نواب..
كانت انتخابات عام 92 بداية الخروج عن وثيقة الوفاق الوطني وتعطيل المرحلة الإنتقالية وعدم تحويل المواد الدستورية إلى قوانين سارية الإجراء.. قاطع المسيحيون الإنتخابات وانتُخِب مجلس نيابي غير ميثاقي بامتياز.. وكان كل ذلك من نتائج احتلال العراق للكويت وحرب الخليج الثانية..
استمرّ تصاعد الأزمة العراقية وانعكاسها على الواقع اللبناني حتى العام 2003 واحتلال العراق.. كان احتلال العراق بمثابة زلزال سياسي غيّر في كلّ توازنات المنطقة ومعه تصدّع المجتمع الدولي.. إذ قادت أميركا الحرب خلافاً لرأي مجلس الأمن مجتمعاً.. وبدأت سياسة الأحادية الأميركية وعلى أساس ديني لأنّ بوش الإبن حوّل أميركا الى دولة دينية.. وبدأ معها العمل على صعود اليمين الديني في اسرائيل والمنطقة عموماً.. تأثّر لبنان باحتلال العراق وأخلّ بالتوازنات الوطنية.. وتغيّرت التوجهات في المنطقة وتقدّمت قضية العراق على قضية فلسطين..
كان التمديد للرئيس اميل لحود عام 2004 أيضاً إحدى تجليات متغيرات العراق.. إذ تعاملت كل من سوريا وايران مع الاميركي بما هو مأزوم في العراق.. وصدر القرار 1559 وكان ذلك أول اعتراف أميركي بالمأزق الذي يعاني منه في العراق.. ورُسِمَت سياسات اقليمية لإيران وسوريا على قاعدة المأزق الأميركي في العراق.. ونال لبنان ما ناله من تصدّعات واغتيالات وحروب ونزاعات وانقسام وعزل واصطفافات وتحوّلات في المواقف والإتجاهات استمرّ حتى عراق 2014 الذي أصبح مأزقاً لإيران وسوريا بعد أن كان مأزقاً لأميركا حتى 30/12/2010 موعد الخروج الأميركي من العراق..
احترق الجميع بدون استثناء في غزّة والعراق وسوريا ولبنان.. وتقدّم الإرهاب الصفوف وسيطر على الموارد النفطية في سوريا والعراق وعلى مساحات شاسعة.. حرّكت داعش الإتصالات والإجتماعات وبدأت المناشدات للتصدّي للإرهاب.. وتراجعت الخطب الحامية والنجومية الإعلامية والسياسية.. وظهر جليّاً بأنّ كل الحديث عن الجيش وقوى الأمن كان إنشاء بإنشاء.. فالجيش الذي قدّم لرئاسة الجمهورية رئيسَيْن للجمهورية بقي بدون سلاح وعتاد.. ومعه قوى الأمن الداخلي التي كانت تُحارَب من الحكومة الماضية لا بل تُمنَع من حماية السلم الأهلي في لبنان..
أدركت الطبقة السياسية اللبنانية مجتمعةً بأنّها كانت تقامر بشعبها وأطفالها ووطنها.. وأنّ سوريا للسوريين والعراق للعراقيين.. وأنّ حالهما يدمي القلوب والحديث يطول عن المآسي والمجازر والفساد وووو… وتحرّك الجميع بحثاً عن مخرج لأزماتهم التي صنعوها بأيديهم.. فوجدوا بداعش خير عدوّ يَتَّحِدون في مواجهته.. كما أجمع الجميع أنّ الحقيقة الوحيدة هي أنّ «لبنان أوّلاً» واقعاً وليس شعاراً.. لأنّهم أين سيذهبون؟ الى دمشق أو بغداد؟
حرّك الرئيس سعد الحريري الحياة الوطنية السياسية بمتابعة مبادراته الإنقاذية.. من لاهاي إلى الحكومة إلى الرئاسة.. وآخرها كان التصدي لمواجهة الارهاب في عرسال ودعم الجيش اللبناني في مهامه في كلّ لبنان.. وجاءت الهبة السعودية والمشروطة عبر الرئيس الحريري وقيمتها مليار دولار والمضافة إلى الثلاث مليارات سابقة لتسليح الجيش اللبناني لتعيد الأمل للإستثمار بالسلم الأهلي والوحدة الوطنية اللبنانية.. وضرورة الدخول في مرحلة انتقالية تعيد اللحمة إلى المكوّنات الوطنية اللبنانية على قاعدة ميثاقية.. وأن يبدأ البحث بدخول مرحلة انتقالية عبر انتخاب رئيس انتقالي والتمديد للمجلس النيابي على أساس العمل على تنفيذ اتفاق الطائف كاملاً وتنفيذ الإستراتيجية الدفاعية وإصلاح ما خرّبته انتخابات 92 واحترام حقوق المكونات الوطنية كاملةً..
لا أستطيع أن أصف معنى عودة الرئيس الحريري بالأمس وكيف تعامل عموم الناس مع هذا الخبر الحدث والذي يعكس عمق الجرح وعمق الأمل لدى عموم اللبنانيين بعودة الروح إلى النسيج الوطني بعيداً عن المقامرة والمغامرة.. ليؤكّد بعودته ومن بيروت أنّ لبنان أولاً وأخيراً..