لم يكن ينقص السيناريوات الكابوسية حول مستقبل المشرق العربي إلا صورة مقاتلي “داعش” يزيلون الحواجز الترابية على الحدود بين العراق وسوريا.
تلا ذلك شريط على موقع يوتيوب لأحد مقاتلي التنظيم يجاهر فيه بأن “داعش” لا تعترف بالحدود بين الدول، وأنه قاتل في سوريا ثم في العراق ويتهيأ للانتقال إلى لبنان والأردن.
كرَّست هذه الصورة الكثير من المبالغات الرائجة حول الدولة الإسلامية قيد الولادة وكون هذه الولادة مقدمة لاستعادة الخلافة المندثرة عام ١٩٢٤. وهي جاءت لتترجم بصرياً، فوضى عارمة تعتري منطق التحليل السياسي الذي يملأ فضائيات وصحف ومنشورات إلكترونية عربية، وتفيد بسقوط اتفاقية سايكس – بيكو. سمعنا الكثير من مثل هذا الكلام بعد حرب الخليج عام ١٩٩٠. كان المحرك يومها لإعلان وفاة سايكس – بيكو، حيازة أكراد العراق منطقة حكم ذاتي شمال العراق محمية بسياسة الحظر الجوي، ولد للمرة الأولى في تاريخ هذه القومية.
تعود وتزدهر اليوم مثل هذه الافتراضات الراديكالية من بوابتي سوريا والعراق، حيث يبدو في المكانين أن انهيار الدولة يسبق انهيار النظام. أو أنها دول لا يمسك بعضها بعضاً إلا الحكم القائم فيها، فإذا ما طار الحكم أو تهدد، طارت الدولة نفسها. في سوريا يستعصي الحكم الأسدي (لصاحبه نظام الخميني) في وجه ثورة شعبية متحركة ومتغيرة في طبيعتها ومشروعها وتكوينها، وفي العراق يستعصي حكم نوري المالكي الآخذ في التبلور كديكتاتورية شوفينية تديرها إيران، في وجه استنفار سني وكردي و… شيعي.
وبالتالي يبدو لوهلة أن حصيلة الاستعصاء وإصرار الرافضين على رفضهم مآله الوحيد هو تفتت الكيانات في المشرق العربي، وبالتالي انهيار سايكس – بيكو، وهو ما أرى فيه مبالغة كبيرة لا تسندها الوقائع بقدر ما ترفدها المقاربات الكابوسية.
لا شك في أن داعش اليوم هي أخطر تطور طرأ على تكوين تفرعات “القاعدة” أو الكيانات غير الدولتية المشابهة، لناحية قدرتها على التجنيد وثرائها بالسيولة النقدية وتحكمها بجغرافيا كبيرة نسبيا متماسكة ومتصلة وعابرة لحدود سايكس – بيكو. غير أن لا مستقبل واقعياً لمشروع “داعش” التي ما كانت لتقف على قدميها في العراق وبعض سوريا لولا أنها مسنودة بقاعدة سنية عشائرية كانت على خصومة وعداء معها في السابق قبل أن تلتقي مصالح الطرفين في مواجهة المالكي.
وهذه القاعدة العشائرية السنية في العراق، وإن كانت تستند جزئياً على “داعش” إلا أنها تفترق معها في أن مشروعها السني يقع في صلب الوطنية العراقية وليس على نقيض منها كما هي “داعش”. أي أن العشائر السنية المنتفضة، منتفضة لأسباب تتصل بالوطنية العراقية وبخلل الشراكة الوطنية في العراق وهو ما فاقم المالكي تمثيله منذ انسحاب الولايات المتحدة من العراق. ما يعني أن “داعش” مرشحة لأن تفقد بيئتها الحاضنة إذا ما جنحت العشائر نحو تسوية سياسية عادلة تريدها وتسعى إليها في العراق. هنا تكمن المسؤولية الدولية في مقاربة المسألة العراقية المستجدة ليس باعتبارها حربًا على الإرهاب، بل باعتبارها أزمة شراكة سياسية ووطنية، تصحيحها هو المدخل الوحيد والإجباري لمحاربة الإرهاب في مرحلة تالية.
ما ينطبق على العراق ينطبق على سوريا. وها هو “حزب الله” في لبنان يذوق اليوم، ويذيقنا معه، مرارات الفشل الذي ذاقه نظام الأسد قبله، باعتماده على جلافة الحل الأمني وتزوير الحل السياسي عبر معارضات ينتجها النظام المملوك لإيران. وكما في العراق كذلك في سوريا، تشكل التسوية السياسية الحقيقية مهبطاً اضطراريا لأي مقاربة تتوسل محاربة الإرهاب لاحقا.
وبالتالي ما يسقط في المشرق العربي، عبر هذه التسويات الآتية لا ريب فيها، ليس سايكس – بيكو إنما هلال الحرس الثوري الممتد من إيران إلى لبنان عبر العراق وسوريا. فهذا الهلال يتفسخ في سوريا ويتشظى في العراق ويُستنزف في لبنان. وليس بغير دلالة أن النظريات عن سقوط سايكس – بيكو تزدهر أكثر ما تزدهر في أوساط معلقي هلال الحرس الثوري.
طبعاً، لا أفترض هنا أن ما شهدناه في المشرق العربي وشمال إفريقيا سيمر بلا نتائج دائمة وعميقة. ولكن إن كان من متغيرات ستطرأ فهي على العقد الاجتماعي للدول في المشرق العربي وليس على الدول نفسها ووحدة كياناتها.
مرة أخرى ليس بغير دلالة أن يتابع المرء الحماسة التي بها باتت تناقش مسألة الفيديرالية على شاشة “المنار” التابعة لـ”حزب الله”. إنه الإقرار النفسي والفكري والسياسي بالفشل في حكم الكل واللجوء تالياً إلى البحث عن كيفية حكم الأجزاء.
سايكس – بيكو بخير، حتى إشعار آخر. ما يسقط هو هلال الثورة الخمينية.