الأكيد أن أسوأ أنظمة الحكم في الدول المتخلفة، يتمثل في الصيغ التوافقية أو الائتلافية الواسعة للحكومات. باختصار، لبنان يعيش اليوم أسوأها إذن. هذا ما يؤكده اطلاع عابر على جدول واحد من جداول أعمال «حكومة المصلحة الوطنية» الحالية.
ففي بلد مثل لبنان، لا يمكن الرهان على عراقة مؤسساتنا الدستورية، لكشف الفضائح. ولا يمكن التعويل قطعاً على أخلاق المسؤولين لتجنب الكبائر. ولا نحيا، لسوء الحظ، في بلد حيث الثقافة السياسية للمواطنين أو الحس المدني للرأي العام، كافيان لوحدهما من أجل ردع أي رجل سلطة عن صرف نفوذه فيها أو الاستفادة من مغانمها أو استباحة المال العام أو الحق العام. وطبعاً لا يمكن في بلد مثل لبنان الاتكال على وسائل الإعلام وحدها، لزجر أهل السلطة عن غيهم أو جعلهم يحسبون ويتحسبون لأي فجور من قبلهم. فإعلامنا في معظمه في أزمة. ليس أسطع من عوارضها، أن جله مملوك من السياسيين مباشرة، وممول منهم مباشرة أو مداورة، ومحاسَب من إداراتهم ومساءل من سلطتهم نفسها. وأخيراً وليس آخراً، مزحة في بلد مثل لبنان الركون إلى القضاة، من أجل إصلاح اعوجاج السلطات الأخرى. يكفي التذكير والاستذكار بأن القضاء في لبنان ليس سلطة دستورية مستقلة، إلا على ورق الدستور وفي حبره. أما على الأرض وفي أسود الأحكام، فمسألة أخرى تبعد عن الاستقلالية، بعدَ لبنان نفسه عن الاستقلال.
هكذا لا يمكننا في بلد مثل لبنان الاعتماد على اي مما سبق، من أجل اكتشاف ارتكابات الحكام والسياسيين. ولو لمجرد المعرفة الحشرية العاجزة كلياً عن المحاسبة أو المساءلة أو الإصلاح. لفترة طويلة كان الملاذ الوحيد للاطلاع على بعض أسرار مغارة الحكم عندنا، هو انتظار خلافات سكانها في ما بينهم. فيعمدون إلى نشر بعض غسيلهم. فنطلع ونتسلى، قبل أن ننسى ونعود فننتظر حفلة غسيل تالية. مثلاً، ذات يوم بلغ التوتر ذروة بين الرئيس الراحل رفيق الحريري والرئيس السابق أمين الجميل. فسمعنا على شاشات التلفزة كيف أن «أحدهم» جاء يتحدث مع مستشار الجميل يومها، عن مبلغ بعشرات الملايين، مقابل كرسي رئاسة الحكومة في لبنان. مثل آخر، يوم كان «مشروع الدولة الأمنية» في الزمن السوري على صراع شرس مع «مشروع الشركة الحريرية». أيضاً كانت فرصة لاستعراض جميل، بكل الأسلحة والأعيرة، عن عورات الطرفين. استعراض تحول في ذلك الزمن إلى مسلسل طويل، على مدى أعوام. نظراً إلى كثافة «المادة»، كما إلى إفادة أسياد ذلك الزمن من إذلال الحياة السياسية اللبنانية كما كل سياسييها، وأخيراً نظراً إلى تعطش المشاهد إلى أي «أكشن» في تلك الأيام، من كرة السلة إلى الفضائح…
في بلد مثل لبنان، الفرصة الوحيدة إذن لمعرفة شيء من فضائح حكامنا، هو انتظار خلافاتهم. ولذلك حين تتستر تلك الخلافات والاختلافات تحت شعار حكومات الوحدة الوطنية، يكون الصمت المطبق والتعمية الكاملة. كأنه قانون صمت المافيات، «أومرتا»، يصير دستور البلد. الجميع راض، الجميع ضاحك زاه. لا خبر ولا من يخبرون. في جدول أعمال جلسة مجلس الوزراء قبل أيام، ورد بند أخير يتناول في شكل عملي، بمعزل عن ديباجته اللغوية، تغطية كل ممارسات حكومة نجيب ميقاتي في فترة استقالتها. أكثر من 470 مخالفة، أريد غسلها بممسحة واحدة من مماسح «المصلحة الوطنية». كل مخالفات الميثاق، بعد التعميم المسخ لرئاسة ميقاتي ــــ بوجي الشهيرة عن تصريف الأعمال، كل القفزات البهلوانية فوق الدستور والقوانين والأصول، تغطيها «المصلحة الوطنية» بسطر. بين المخالفات، على سبيل المثال لا غير، أن طائرة أجنبية حطت ذات يوم في مطار بيروت، وعلى متنها حمولة من نوع أسلحة الدمار الشامل. علماً أن عبورها «ترانزيت» في بيروت تم يومها خلافاً للأصول، وانتهاكاً لكل القوانين اللبنانية، وحتى في استباحة صارخة لسلامة لبنان واللبنانيين. لكن «المصلحة الوطنية» تغطيها اليوم، مع مفعول رجعي. لا مفعول رجعياً لراتب المعلم المسكين. لكن كل المفعول الرجعي المصلحي متوفر لارتكابات أحد عشر شهراً ومخالفات نسفت كل أسس الدولة. بعد «بابور» طرابلس الذي اختفى وتبخر، الآن تختفي طائرة بكاملها. حتى رائحة «الكيماوي» المنقول عليها «شطفته» المصلحة الوطنية القاضية بقطع الحس والصوت والشفة، لمجرد أن مصالح سلطوية كبرى تُطبخ على نار بحصية عقيمة.
من يفتح هذه الملفات الثقيلة في بلدنا؟ الإعلام المهدد؟ الناس المقهورون؟ صندوق الاقتراع الممنوع؟ القضاء؟! على سيرة القضاء، يتندر أهل العدلية أخيراً بتعيين 22 قاضياً جديداً. اجتازوا جميعاً مباراة الدخول إلى سلك الحق والعدالة. مباراة يعرف القاصي والداني أن معدل النجاح فيها هو 60 على مئة. يتندّر أهل العدلية أن ثمانية من الناجحين لم يُعلن مجموع نقاطهم. فيما نصف الناجحين الآخرين صودف أن مجموعهم كان 60 بالتمام! من يفتح تلك الملفات الثقيلة؟ ربما أحد المغفلة نقاطهم، ذات يوم من أيام خلاف زعيمين في مزرعة لبنان.
في مجاهل أفريقيا ثمة مثل يقول أنه حين تتصارع الفيلة يُسحق العشب تحتها. أما حين تتضاجع الفيلة… فيُسحق العشب تحتها أيضاً.