IMLebanon

سليمان بعد قصر بعبدا: أي دور سياسي؟

 

في الساعة الصفر منتصف الليل تنقضي ولاية الرئيس ميشال سليمان وتبدأ ولاية الشغور. لا احد يسعه التكهن بانتخاب الرئيس الجديد ما لم تطرأ مفاجأة تضع الجميع امام الاستحقاق. لم تُجدِ المهلة الدستورية كي تلقي بثقلها لتفادي الشغور ولا الخلاف على النصاب بات ذا جدوى

 

يخرج الرئيس ميشال سليمان من قصر بعبدا على نحو مغاير. ليس كالرئيس اميل لحود وحيداً الا من وداع خجول ومتواضع للحرس الجمهوري وبعض موظفي القصر. لم يكن حلفاؤه حتى في عداد المودعين. وليس كالرئيس امين الجميل من قبل وحيداً ايضاً، تاركاً وراءه قنبلة موقوتة لم يطل الوقت قبل انفجارها، هي تعيين قائد الجيش العماد ميشال عون رئيساً لحكومة عسكرية انتقالية في مرحلة نزاعه مع قائد القوات اللبنانية سمير جعجع على اقتسام السلطة والشارع في المناطق المسيحية آنذاك. الى اليوم لم يتوقف تطاير شظايا القنبلة تلك.
يخرج سليمان من دون خلف بمظاهر احتفال اعتادها اللبنانيون قبل الحرب بين سلف يسلم وخلف يتسلم.

الاصح ان الرئيس يغادر بطريقة غير مألوفة: لم يجد احداً في انتظاره لدى دخوله قصر بعبدا عام 2008، ولا يرى اليوم احداً يستقبله ويسلّم اليه القصر قبل ان ينصرف.
وهذه سابقة. لكن تجربة السنوات الست المنصرمة تفضي حتماً الى بضع ملاحظات اولى عن دروسها ومغازيها:
1 ــــ شأن معظم أسلافه انتخب سليمان بما يشبه الاجماع، وترك السلطة في ظل انقسام الموقف من حوله بين مؤيد ومعارض. لم يسع اتفاق الدوحة حماية عهده كله، وبدا أنه مظلة موقتة للسنة الاولى منه فحسب انتهت بانقضاء مقتضياتها: حكومة الوحدة الوطنية برئاسة الرئيس فؤاد السنيورة، الانتخابات النيابية، حكومة الوحدة الوطنية برئاسة الرئيس سعد الحريري حتى سقوطها. بعد ذاك اصبح الرئيس متروكاً بين قوى 8 و14 آذار.
2 ــــ على مرّ سني عهده، ثابر على دوره كرئيس للجمهورية من دون ان يحضّر نفسه لزعامة سياسية شعبية، قادرة على الاستمرار بعيداً من المنصب في ما بعد، ومن غير ان يتيقن من مقدرته على ان يمسي مرجعية يحتكم اليها. انتخب باجماع يكاد يكون مماثلاً للاجماع على الرئيس كميل شمعون، ويغادر الحكم من دون ان يترك وراءه، كالرئيس فؤاد شهاب، مدرسة. بل يُخشى ان تكون المرحلة التالية من التقاعد الرئاسي محفوفة بالاعباء: قضاؤه جبيل ومسقطه يدين بالولاء الانتخابي والشعبي لزعيم آخر هو عون، وفي مرمى حزب الله من جرود المنطقة. كلاهما خصماه.
تنطوي ملفات عهد سليمان بانقضاء الولاية كي يبدأ الخلف من نفسه فقط

في ظلّ توازن داخلي ضيّق الخيارات بين فريقي 8 و14 آذار، يحتاج سليمان الى ارث ضارب الجذور في التاريخ والشعبية والمكانة في الطائفة وفي اللعبة السياسية، يحتاج الى ان يكون النائب وليد جنبلاط كي يتمكن من الوقوف في الوسط، متمكناً وقادراً على اشعار الاطراف الآخرين جميعاً بحاجتهم اليه. في سنه الـ66 لم يقل الرئيس بعد من اين يريد أن يبدأ ومع مَن؟
3 ــــ في وسع سليمان القول انه ترك ملفات مهمة ينبغي ان تستمر من بعده: مشروعا اللامركزية الادارية وقانون الانتخاب وفق التصويت النسبي اللذان احالهما على مجلس النواب، مشروع تعديلات دستورية امضت لجنة من النواب والوزراء السابقين والمستشارين والباحثين الدستوريين في وضعه طوال ثلثي العهد بغية ايضاح مواد دستورية واخصها صلاحيات رئيس الجمهورية كان من المتوقع احالته اياه على مجلس الوزراء، آلية التعيين في الوظائف العامة اعده مع الوزير السابق للتنمية الادارية محمد فنيش. يترك ايضاً للخلف اربعة ملفات ثقيلة الوزن والعبء: اعلان بعبدا (حزيران 2012)، تصوّره للاستراتيجيا الدفاعية (ايلول 2012)، مجموعة الدعم الدولية للبنان (ايلول 2013)، الى طاولة الحوار الوطني التي وسّع من وظيفتها فلم تقتصر على مناقشة سلاح حزب الله بل تحولت هيئة وطنية ترعى الاستقرارين السياسي والامني.
اما ما درجت عليه العهود المتعاقبة، فهو تجاهل الرئيس الخلف ملفات سلفه بأن يلقي بها في ادراج النسيان، ويعمد الى تكوين ملفاته هو وفق خياراته واسلوب عمله. لم يقل اي من الرؤساء المنتخبين انه اتى كي يكمل مسيرة سلفه، بمن فيهم الرئيس الذي صنع رئاسته السلف، وهو الرئيس شارل حلو. لم ينتظر انقضاء سبعة اشهر حتى انقلب على شهاب ما ان شعر حلو انه ظلّ رئيس حقيقي يقيم في جونيه. في الغالب يُنتخب الخلفاء على انقاض اسلافهم قبل ان يشهّروا بعهودهم المنطوية.
لم ينجُ رئيس، في الماضي القريب والبعيد على السواء، من تشهير خلفه به والاساءة اليه الا اثنان فقط هما شهاب والرئيس الياس سركيس. ما يعني ان ملفات عهد سليمان تنطوي بانقضاء الولاية كي يبدأ الخلف من نفسه فقط. بل نادراً ما ابصر اللبنانيون رئيسا يحتفظ بصداقة سلفه، او اتصاله به لمحاورته، او استيحاء تجربته.
4 ــــ ربما يحتاج تقويم تجربة «الرئيس التوافقي» الى بعض الوقت ايضاً من اجل الحكم عليها. الا ان من الصواب القول ايضاً ان سليمان لم يسعه المحافظة على دوره التوافقي سوى في النصف الاول من ولايته، حتى كانون الثاني 2011 مع تكليف الرئيس نجيب ميقاتي تأليف الحكومة، بتأجيله الاستشارات النيابية الملزمة اسبوعاً كان كفيلاً بنقل الغالبية النيابية من فريق الى آخر. غضبت قوى 14 آذار وعدّته فوّت فرصة تسمية الحريري لرئاسة الحكومة بانحيازه الى الفريق الآخر. في السنة الاخيرة من الولاية اضحى في مواجهة قوى 8 آذار بعدما وجه الى حزب الله انتقادات قاسية لتورطه في الحرب السورية ما جعله ضمناً في صف قوى 14 آذار.
منذ مطلع 2011 انهار الدور التوافقي وهبطت مقدرة الرئيس على الموازنة بين الفريقين المتناحرين، بعدما تمكن في السنوات الثلاث المنصرمة من ادارة خلافهما بدراية في حكومتي الوحدة الوطنية. الأصح ان يُعزى تهاوي الدور التوافقي الى اندلاع الحرب السورية عامذاك. انقسم فريقا 8 و14 آذار من حولها بين مؤيد للنظام ومناد باسقاطه، سرعان ما اضحى سليمان في قلب الاشتباك: لم يعد في امكانه التقريب بينهما، ولا ادارة تناقضاتهما، ولا التواصل المتوازن معهما من غير ان يكون على تماس مع الحرب السورية وتداعياتها اللبنانية.
منذ آب 2012 جهر بالخلاف المعلن مع دمشق مع اكتشاف محاولة تفجير تورّط فيها الوزير السابق ميشال سماحة. في وقت لاحق، في تصرف غير مألوف وقد يكون أسيء تفسيره، قال سليمان انه ينتظر مكالمة من الرئيس بشار الاسد يشرح له اسباب ضلوع سوريا في محاولة سماحة عبر اللواء علي المملوك. مذذاك انقطع الاتصال بين الرئيسين، وكان سليمان اعتاد منذ القمة الاولى بينه والاسد عام 2008 مكالمته اسبوعياً، وافتتح العلاقات الديبلوماسية بين البلدين.
بيد ان السنتين الاخيرتين من العهد اوقعتا تدريجا القطيعة بينه وحزب الله استكمالاً للقطيعة مع دمشق. في عيد الجيش في آب 2013 قال بحصر السلاح في يد الجيش، ثم دعا في الشهر نفسه في افطار القصر الجمهوري الى التزام اعلان بعبدا بعدما رفع النبرة ضد مشاركة الحزب في الحرب السورية. اواخر عام 2013 ادلى بموقف استثنائي اصطدم بعقيدة حزب الله، وبدا انه يتوخى التشكيك فيها وتقويض مفهومها الديني: الشهادة تكون على ارض الوطن فحسب، داعياً اياه الى مغادرة سوريا، حتى كان الموقف الصدمة قبل اشهر عندما تحدث عن «المعادلة الخشبية»، ايذانا بانهيار شامل ونهائي لعلاقته بحليف قديم مذ كان قائدا للجيش.