في معركة القانون الأرثوذكسي، اتسمت القوات بقليل من الحياء بانسحابها، حين جدّ الجدّ، من الصف المسيحي الموحد خلف هذا القانون. أما اليوم، فـ«طق شلش» الحياء: القوات، علناً، ضد الرئيس القوي وضد معالجة الخلل في اتفاق الطائف وإعادة التوازن إلى السلطة ما دام المرور بالعماد ميشال عون إلزامياً لتحقيق هذا كله
عام ١٩٧٠ كانت العلاقة بين الجبهة اللبنانية والرئيس سليمان فرنجية أسوأ مما هي اليوم بين العماد ميشال عون ورئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع. إلا أن بيار الجميل وكميل شمعون وريمون إده انتخبوا فرنجية، لا الرئيس الياس سركيس، لأنه يمثل الزعامة المسيحية وكانت حظوظه بالفوز أكثر جدية من حظوظهم. ثمة نواب، مثل جان عزيز وجورج عقل ونهاد بويز، كانوا يدركون أن انتخاب فرنجية سيهدّد كراسيهم النيابية، لكنهم قدّموا مصلحة طائفتهم على مصالحهم الخاصة.
وفي يوم انتخاب فرنجية، كان قرع أجراس الكنائس في المناطق الكتلاوية والشمعونية والكتائبية أعلى منه في زغرتا نفسها. بين سياسيي الأمس، كان تقاطع مصالح وخصومة وضغوطات متنوعة، إلا أن الأهم أنه لم يكن هناك حقد وكراهية مماثلان للموجودين اليوم.
بعد ذلك بسنوات، وقف الرئيس كميل شمعون في منزل جوزف عبود في ضبية، وأحرار الصفرا لم يدفنوا بعد، يصرخ محذراً أنصاره من الرد. كانت مصلحة المجتمع، في حسابات شمعون، أهم من تنفيس الأحقاد. ولم يلبث الرئيس سليمان فرنجية أن أعطى درساً آخر في اجتماعات لوزان، حين خبط يده على الطاولة، محذراً حلفاءه من التمادي في إهانة الرئيس أمين الجميّل، احتراماً منه لموقع الرئاسة الأولى، ولم يلبث أن ساند الجميّل في رفض المسّ بصلاحيات الرئاسة الأولى، حتى ولو كان الجميّل هو رئيس الجمهورية.
كانت ثمة مبادئ ومظاهر بروتوكولية وحد أدنى من الاحترام للنفس تحول دون الاندفاع خلف الأحقاد. وفجأة لم يعد هناك سوى ميشال عون وسمير جعجع.
كان عون متابعاً عن قرب وبإعجاب لمسيرة الزعماء السابقين. ما كان يفوّت فرصة لرؤية شمعون. حين اتصلت به قيادة القوات لسؤاله رأيه في إعداد انقلاب على الجميّل، اعتذر منهم بلباقة. مدّ جسوراً متينة في اتجاه زغرتا، وبقي العميد إده، حتى وفاته، مدرسته السرية.
يحاول عون
الاستفادة من فرصته الثانية فيما يجتهد جعجع لتكريس
أخطائه السابقة
أما جعجع فسعى دائماً للظهور بمظهر المنتفض على نموذج هؤلاء العائلي والحزبي. يروى في هذا السياق أن مكتب قائد القوات اللبنانية في المجلس الحربي كان له باب رئيسي مخصص لرئيس القوات وأعضاء الجبهة اللبنانية، وباب آخر لزوار المبنى الآخرين. وقد حاول جعجع، حين كان رئيساً لأركان القوات، الدخول مرة من الباب الأول، فمنعه الحراس وفقاً للبروتوكول، مشيرين إلى وجوب دخوله من باب العسكر. فما كان منه، بعد تتويج نفسه عبر الانتفاضات الدموية قائداً للقوات، سوى أن سدّ هذا الباب بالباطون، جاعلاً من باب العسكر الجانبي الصغير المدخل الرئيسي إلى مكتبه.
«كان حاقداً حتى على الباب»، يقول أحد الكتائبيين. فتك بنفوذ الجميّل وشمعون وإده صباحاً، وسار في جنائز نفوذهم عصراً، ملوّحاً لاحقاً بصوره معهم بوصفه وريثهم الشرعي. استمد شرعيته الشعبية باعتباره المقاتل المتمرد على الإقطاع، من بيار الجميّل إلى آل طوق، وشرعيته السياسية باعتباره وريث هؤلاء. لكنه آثر الانقلاب على كل قيمهم، تماماً كما لم يكتف بتغيير قواعد استخدام البابين في المجلس الحربي، فسدّ أحدهما بالباطون وتركه من دون بويا عبرة لمن يعتبر.
ثمة جيل لا يعرف الكثير عن كل ما سبق. بلغته قصة الثورين الأبيض والأسود بالتواتر، وكان دائماً يستصعب تحديد المسؤول عن هزيمة ١٣ تشرين الدستورية والعسكرية والسياسية. أما اليوم فالصورة واضحة: في حال رست التسوية الإقليمية على عون، لا جعجع ولا غيره سيحول دون انتخابه رئيساً. وفي حال عدم وجود حد أدنى من الموافقة الدولية على انتخاب عون رئيساً، فلا جعجع ولا غيره يمكن أن يسهّل وصوله إلى بعبدا. إلا أن ما يفعله جعجع يثير الانتباه فعلاً. دعكم من تلفزيون الواقع الذي يملأ فراغه السياسي به، ها هو يقول يومياً إنه مع انعقاد المجلس النيابي، من دون أي ضمانات مسبقة، لانتخاب أي كان غير العماد ميشال عون (والنائب سليمان فرنجية بطبيعة الحال) رئيساً، حتى ولو كان النائب هنري حلو أو زميله فؤاد السعد أو جيلبرت زوين أو سليم كرم. رفضت الجبهة اللبنانية تزكية الرئيس الياس سركيس بكل أخلاقه وثقافته واستقلاليته ونزاهته على خصمها فرنجية، لأنه زعيم مسيحي، فيما يسعى جعجع لتزكية فلان وعلان على الزعيم المسيحي. ثمة زعيم يحظى بفرصة الوصول إلى قصر بعبدا، بحكم تأييد فريقه السياسي له وعدم وجود فيتو معلن من الفريق الآخر، يبذل جعجع ـــ وليس أي أحد آخر ـــ كل ما في وسعه لتعطيل التوافق عليه.
لا يمكن وضع عون وجعجع دائماً في الخانة نفسها باعتبارهما وجهين لحقد واحد. لم يعارض عون الطائف نكاية بجعجع، فيما وقّع جعجع الطائف للتخلص من عون. لم ينسّق عون مع الجيش السوري واستخباراته، عسكرياً أولاً وسياسياً ثانياً، للتخلص من جعجع، فيما نسّق جعجع، عسكرياً أولاً وسياسياً ثانياً، للتخلص من عون. لا يفكر عون بجعجع حين يقرر دخول الحكومة أو الخروج منها، فيما لا يفكر جعجع بغير عون حين ينوي اتخاذ قرار في هذا الشأن. نكاية بعون، تبنّى الاقتراح الارثوذكسي، ونكاية به تنصّل منه. المقارنة بين الموقعين الإلكترونيين للقوات اللبنانية والتيار الوطني الحر تكشف أن المرض من جهة واحدة.
يمكن عودة عقارب الساعة إلى الوراء أن تكون مفيدة في حال هدفت إلى تصحيح الأخطاء أو عدم تكرارها، إلا أن من كسر الموقف المسيحي بموافقته سابقاً على اتفاق الطائف، يوافق اليوم على تشريع الخلل في تطبيقه. ومن قرع الأجراس فرحاً بمجزرة ١٣ تشرين الأول، يقرعها للحث على المجزرة. المهم التخلص من عون.
عام ١٩٨٨، كان المقاتلون المبدئيون في القوات اللبنانية في البراميل على أطراف المجلس الحربي، الجميّل في منفاه، آل فرنجية يداوون جرحهم، حزبا الوطنيين الأحرار والكتلة الوطنية في الكوما، ميشال المر وبطرس حرب ونظراؤهما معزولين في قراهم. كان حلم جعجع قاب قوسين، حين باغته عون بخطف الشعبية والشرعية والقضية من يده. وكل ما يفعله جعجع من يومها هو تخبّط صبياني، لا استراتيجية تقوده ولا منطق أو مراعاة لوعي الرأي العام.
ثمة حقد عادي يمكن أن تسألوا كل رفاقه السابقين عنه، من كريم بقرادوني إلى جورج فريحة وجورج أنطون وجورج كساب ونادر سكر وإميل رحمة وألفرد ماضي وحبيب يونس وبيار الضاهر وحبيب افرام ومسعود الأشقر وحنا عتيق وفادي افرام وفؤاد أبو ناضر. وحقد غير عادي تخبر مسيرته في ظل العماد عون عنه.
ينشغل جعجع اليوم عن حملته الرئاسية العظيمة بمتابعة تفاعل الرأي العام المسيحي بإيجابية ضد تعطيل عون النصاب وإفراغ سدة رئاسة الجمهورية؛ مفترضاً أنه يحقق انتصاراً شعبياً. ولا شك، بالتالي، في أن أزمته الشخصية ـــ وعنوانها عون ـــ ستزداد قريباً، حين يخرج الأخير عن صمته ويدل بإصبعه صوب معراب، منبهاً من سهوا إلى أن من غطّى اتفاق الطائف والخلل في تطبيقه هو نفسه من طيّر فرصة تصحيح التمثيل المذهبي عبر القانون الأرثوذكسي، وهو كان سلاح الحريريين للحؤول دون انتخاب رئيس قوي للجمهورية.
سمير جعجع دق آخر المسامير في نعش التمثيل المسيحي في السلطة. تخلى عن واجبه في المطالبة بانتخاب زعيم المسيحيين رئيساً، مفضّلاً وضع عصيّه في دواليب مركبته. وهو ليس وحده بالطبع، معه اليوم من كانوا معه عام ١٩٩٠، جميعهم ولو تغيّرت أسماؤهم.
الصورة في غاية الوضوح أولاً، وليس الرأي العام المسيحي ثانياً بالغباء الذي يصرّ جعجع عليه. وما على جعجع بالتالي سوى انتظار إعصار تخوينيّ لا يقارن بعاصفة تخليه عن القانون الأرثوذكسي.
عام ١٩٩٠ كان لا يزال أمام كل من عون وجعجع فرصة ثانية؛ الأول لترتيب أوراقه الرئاسية والثاني لتصحيح أخطائه بحق مجتمعه. يحاول عون الاستفادة من فرصته الثانية، فيما يجتهد جعجع لتكريس أخطائه السابقة. الحقد بالفعل يعمي.