IMLebanon

سمير جعجع لم يقاتل الملائكة

كم كانت مفيدة الحملة التي شنت على قائد «القوات اللبنانية» سمير جعجع بعد إعلان ترشّحه لمنصب الرئاسة الأولى! حملة شرسة لا شك، لكن مفيدة في اطار سوق الحجج ونبش الذاكرة وإعادة البحث عما يريده اللبنانيون لأنفسهم… والأهم، كيفية محاسبتهم لذواتهم وزعمائهم عن فترة الحرب وما بعدها.

ما لم يُحك علانية على المنابر السياسية ذخرت به وسائل الإعلام، ومواقع التواصل الاجتماعي وأحاديث العامة في الشارع. وقد يكون في ذلك بعض الضرر اذا افترضنا أن «التنفيس» الافتراضي يجهض أي احتقان يدفع الناس الى المبادرة الواقعية، لكن ذلك بحث آخر.

المهم هنا، أن الخلاصة التي خرج بها جزء غير قليل من اللبنانيين والحكم الاخلاقي الذي أصدروه بحق الرجل يفيدان بأن «سمير جعجع مجرم حرب وعميل اسرائيلي». ومن اتسع صدره لبعض النقاش، سأل بصيغة الاجابة المسبقة «هل يمكن إنكار ذلك؟».

صحيح، يصعب إنكار ذلك. فمسيرة الرجل حين كان قائداً عسكرياً لميليشيا مسيحية متطرفة لا تخفى على أحد. لكن الصحيح أيضاً انه يصعب بالمقدار نفسه، إن لم يكن أكثر، إثبات تهم «جرائم الحرب» و «العمالة» في غياب محكمة مختصة تنظر في مجمل تلك المرحلة ورموزها، وتعيد تعريف المصطلحين القانونيين في سياقهما الزمني. أما وأنه غير مشهود للبنانيين حبهم للمحاكم والقوانين، دولية كانت ام محلية، ترك للذاكرة الانتقائية أن تفعل فعلها وتقيم عدالة لا تقل عنها انتقائية. وفي هذا السياق ثمة ما يقال.

بداية، لا يمكن التغاضي عن الطريقة التي رشحت بها قوى 14 آذار سمير جعجع للمنافسة الرئاسية، وكأنها رمت به رمياً مجانياً في فوهة المدفع من دون إحاطته بأي حصانة سياسية أو شعبية. فإن كانت حملة التشهير التي لحقت به مفاجئة وغير متوقعة، فذلك يعني أن «14 آذار» وتحديداً تيار «المستقبل»، منفصلة عن الواقع. وإذا كانت متوقعة كما يفترض أن تكون، فذلك خطأ غير بريء. هذا ولم يتكبد أحد عناء تقديم تفسير سياسي لاختيار جعجع من دون سواه، في معركة دقيقة كهذه، حتى ترك الرجل يواجه منفرداً نوعاً آخر من «غضب الاهالي». ففي حين لم يصدر موقف صريح من خصوم جعجع السياسيين في ما يتعلق بـ «إجرامه وعمالته» وما يحتمه ذلك من تقديم مرشح بديل، تكفل «الأهالي» بالمهمة.

وللمفارقة فإن غالبية الملوحين بهاتين التهمتين ليست من صلب جمهور فريق «8 آذار» الذين قد يبتلعون مرارتهم ويقبلون بما تقرره قيادتهم، وإنما هم من «الملحقين» بهم من مسيحيين ويساريين مصابين برهاب التخوين وأول ضحايا ذاكرتهم الانتقائية.

فالمسيحيون الذين خسروا الحرب ومعها صلاحيات كثيرة منها موقع رئاسة الجمهورية، وقّعوا على اتفاق الطائف مرغمين وانكبوا مذذاك على تلاوة فعل الندامة. اقتنعوا بأنهم سبب الحرب الأهلية بفعل مجزرة البوسطة في عين الرمانة، واقتنعوا أيضاً بأنهم، ولكونهم مسيحيين، فهم تلقائياً عملاء وخونة وأصحاب ولاءات خارجية. كما اقتنعوا بضرورة أن يدفعوا الثمن منفردين، فنفي لهم زعيم وزج آخر في السجن، فيما البقية المتبقية آثرت الصمت. والى ذلك، فهم من استدعى الجيش السوري وأقام وصاية نظام الاسد على لبنان ليكونوا أول من تمت التضحية به. لكن الذاكرة الانتقائية تلك لا تأتي على تفصيل المستفيدين من تقاسم الحصص والمناصب في مرحلة السلم، ولا على مجازر كثيرة وقعت بحق الفلسطينيين في مخيماتهم ثم المتاجرة بهم بصفتهم «قضية لا صوت يعلو فوقها». وطبعاً لا مجال هنا، لإحصاء دقيق حول أعداد «العملاء» في الجنوب تحديداً من بين مَن نفي الى غير رجعة ومن امتصته «المقاومة» وأعادت تدويره وتطهيره. ذلك كله يدركه المسيحيون ولا يجاهرون به. وليس غضبهم من اختيار سمير جعجع ممثلاً عنهم في موقع الرئاسة الأولى إلا تعبيراً عن رغبة عميقة في التخلص من وصمة ذلك الماضي «الميليشيوي»، والبحث عن نموذج يشبههم ويمثلهم بعد الحرب بعد سنوات من العجز التام عن انتاج رواية مقابلة لراوية «الاجرام والعمالة».

وفي هذا العجز يشترك اليساريون أيضاً الذين انكفأوا الى حالة من النكران (denial)، يستعيضون به عن مواجهة نتائج هزيمة ألمت بهم وتحسب لهم وليس ضدهم. لكنهم ارتضوا بما أقره زمن الوصاية «الممانعة» من خطابية كرست سردياتها عن الاحداث وألزمت بها المعارضين قبل المؤيدين. وهكذا فضل «تقدميو» الأمس الاصطفاف الى جانب من اغتال قياداتهم، وعمل على افراغ أحزابهم، وأبعدهم عن ميادين عملهم، مذكرين في كل مناسبة بأمجاد معاركهم ومواقفهم… واذا كانت الاحزاب الطائفية في بلد كلبنان واضحة وصريحة (الى حد الفجاجة ربما)، فإن «الترفع» اليساري عن تلك «الصغائر» جعل خطاب أصحابه مزدوجاً الى حد لا يليق بناقله وسامعه على السواء.

فكيف يبرر هؤلاء تحديداً لشريحة واسعة من اللبنانيين طائفيين أو غير طائفيين، الطامحين فعلاً لرئيس يمثلهم من خارج الطاقم الحربي – السياسي، كيف يبررون رفضهم لـ «مجرم حرب» في لبنان ويطالبون به رئيساً في سورية؟

هي فعلاً حملة مفيدة جداً تلك التي تعرض لها سمير جعجع، فقد تسمح بنبش تدريجي للذاكرة تمهيداً لتنقيتها، ولكنها تسمح أيضاً بالاختلاف معه رئيساً لأسباب كثيرة غير تلك التي يشاركه فيها بقية السياسيين اللبنانيين… فهو في نهاية المطاف لم يكن يقاتل الملائكة.