باستثناء الزعامة السنيّة، شكّل الجزء الثاني من الحرب اللبنانية، أي التالي للاجتياح الاسرائيلي، مسرحاً لتوطد الزعامات والشخصيات في الطوائف الأخرى، كما لصعود بعضها من الميدان أو من صلب الجهاز الى دفّة القيادة. تجربة «القتال سوية» التي تشارك بها عشرات الآلاف في كل ربع مع هذه الشخصيات منحت للزعامات المعجونة بطعم الثمانينيات سحرها المزمن والممتد الى الآن. الى حد كبير يمكن القول إن الجزء الاول من الحرب اللبنانية كان أشبه بعملية تداول كبيرة على الزعامة في كل طائفة بشكل أضعف عائلات ما قبل الحرب، في حين أن الجزء الثاني من الحرب مهّد لزعامات مزمنة، راسخة في طوائفها، سواء رسوخ الأحادية أو رسوخ الثنائية، وبشكل ساهمت الوصاية السورية في بعثرته قليلاً ثم عاد وفرض نفسه في اثر انقضائها.
وعند مراجعة عقد الثمانينيات، لربّما أعاد المؤرخ المستقبلي طرح السؤال عمّا كان ليكون عليه مسار الأمور أو شكل البلد لو كُتب لـ«الاتفاق الثلاثي» الذي وقع في أواخر العام 1985 الاستمرار، وما اذا كان بالامكان يومها اختصار خمس سنوات احترابية اضافية. وبطبيعة الحال، هكذا سؤال سيعود فيطرح نفسه على الرجل الأساسي الذي أطاح «الاتفاق الثلاثي»: سمير جعجع، بانتفاضته على ايلي حبيقة. لكنّ تقوّيم هذا المؤرخ المستقبلي الافتراضي لـ«الاتفاق الثلاثي» سلباً أو ايجاباً لن يسقط في الحالتين من حسابه أن الجميع ارتضى وقتها أن يكون التفاوض والاتفاق بين حركات شعبية ومسلّحة في آن، وبالتحديد ثلاثي «حركة أمل» و«الحزب التقدمي الاشتراكي» و«القوات اللبنانية». أن يكون مضمون ما تم الاتفاق عليه في دمشق هو ما أدّى الى سقوط حبيقة في المناطق الشرقية فتلك مسألة أخرى. الأساسي الذي يجب استذكاره انه في منتصف الثمانينيات لم يكن أحد ليكابر لا في سوريا ولا في لبنان على أن «القوات اللبنانية» ركن أساسي في أي اتفاق ينقل البلد من حال الحرب الأهلية الى حال السلم الأهلي. أكثر من ذلك، «الاتفاق الثلاثي» تعامل مع «القوات اللبنانية» بوصفها الممثل الرئيسي للمسيحيين المحاربين في مقابل الممثلين الرئيسيين للمحاربين من طائفتين مقابلتين آنذاك. مجدداً: هذا بمعزل عن بنود الاتفاق نفسه التي أدّت الى سقوطه.
كان مقبولاً اذاً في عز الحرب الأهلية، أي في منتصف الثمانينيات، الاقرار بالندّية بين الأطراف الداخلية المتحاربة، أما المشكلة الداخلية المسيحية يومذاك فتمثلت بإصرار المسيحيين على ندّية بين الدولتين السورية واللبنانية بخلاف نص «الاتفاق الثلاثي» بحدّ ذاته. بالتالي، لا يعقل بعد ربع قرن على انتهاء الحرب اللبنانية، أن يجري تسويق الأمر بشكل معاكس: أي عدم الاقرار بالندّية بين الأطراف الداخلية المتحاربة (هذه النديّة التي سمحت بالبحث عن «اتفاق ثلاثي» في دمشق) وأن يصادر المطلب التاريخي للمسيحيين بالندّية في العلاقات بين لبنان وسوريا (هذه الندّية الغائبة عن نص «الاتفاق الثلاثي» بما أدى الى سقوطه).
وبالطبع، فإنّ الحملة الشنيعة في صفوف الممانعين ضد ترشيح الدكتور سمير جعجع للرئاسة اليوم، لا تتظلّل بمسؤولية «الحكيم» عن اسقاط «الاتفاق الثلاثي»، بل انها تكابر على ما كان واقعياً القبول به في منتصف الثمانينيات من ندّية مباشرة، ونافرة، كما عشية توقيع هذا الاتفاق، ومن ثم ندّية ملبّسة ثوباً برلمانياً في اتفاق الطائف.
في المقابل، ورغم كون جعجع مرشّحاً صقرياً، ينقسم البلد اليوم «معه» و«ضدّه»، لا يبلور هذا «الضد» نفسه حتى الآن الا كمسار تعطيلي لانتخابات الرئاسة، وكتمهيد لفترة من الفراغ الدستوري. لكن جعجع هو في الوقت نفسه مرشّح توافقي بالمعنى العميق للكلمة، حيث انّ ترشيحه يعيد الاعتبار لاثنتين: واقعة ان الندّية بين الأطراف الداخلية المتحاربة شرط أساسي للتأسيس للسلم، خصوصاً وان الحرب لم تخضها ثلة من الزعامات، بل ان الثمانينيات هي البرهان على ان الحرب، والكتل الشعبية المنخرطة بها، كانت موطدة وصانعة للزعامات، وليس عن عبث، كما ان عودة الروح للتداول على النخبة اليوم وغداً له شروطه ولن يحصل بالعبث. وثانياً، واقعة انه، منذ الانتفاضة التي قادها في «القوات اللبنانية» على خيار «الاتفاق الثلاثي»، يمثّل خيار الندّية بين الدولتين اللبنانية والسوريّة، وبشكل لا يوازيه فيه أي زعيم مسيحي آخر. بهذا المعنى هو مرشح توافقي. فبقطع النظر عن مآل المعركة فإن ترشّح جعجع ظاهرة «صحية» بامتياز كونها تحث على التوافق الصحيح بين اللبنانيين وذاكراتهم الحربية المختلفة، وكونها تحث على التوافق الصحيح بين لبنان وسوريا .. أعادها الله وطناً لجميع أبنائها بعد سقوط النظام الفئوي الدموي فيها.