في نهاية هذا اليوم السبت في الثاني والعشرين من أيار (مايو) يصــبح القـــصر الجمهوري في بعبدا (احدى ضواحي بيروت) خالياً من نزلائه: الرئيس ميــشال سليمان وعائلته، وتتوقف نافورة المياه اشارة الى عدم وجود سيد القصر.
وحيث انه لم يتم التفاهم على انتخاب رئيس جديد للجمهورية فليس هناك من عملية تسلم وتسليم بين رئيس خارج انتهت ولايته المؤلفة من ست سنوات، ورئيس داخل انتخب لولاية اخرى من ست سنوات.
ومن المفارقات ان الرئيس ميشال سليمان تولى الرئاسة بعد «اتفاقية الدوحة»، فهو لم يتسلمها من الرئيس اميل لحود ولا هو سيسلمها الى الخليفة المنتظر.
وبذلك دخل لبنان مرحلة «الفراغ»، وبعضهم الآخر يطلق عليها «مرحلة الشغور». هل من فارق جوهري بين التعبيرين؟
هل هي نهاية المطاف في حكم رئيس الجمهورية؟
لقد اخذ المشرع اللبناني هذه الناحية في الاعتبار، وحتى لا يترك المنصب والبلد في حالة من الفراغ، نص الدستور اللبناني في مادته الرقم 49 على ان منصب رئاسة الجمهورية عندما يشغر لأي سبب، فهناك صيغة بديلة للحكم وهي تتكون من مجلس الوزراء مجتمعاً حيث تنتقل اليه صلاحيات رئيس الجمهورية (في حدود معينة).
وعليه فإن لقباً جديداً يبدأ اليوم في لبنان مع رحيل العماد الرئيس ميشال سليمان، الا وهو: فخامة – دولة الرئيس تمام سلام ومجلس الوزراء مجتمعاً.
وتضم الحكومة السلامية نسيجاً وزارياً ينتمي الى مختلف ألوان الطيف السياسي اللبناني، وما يخشى منه اذا ما طالت فترة شغور مقعد الرئاسة ان تنتشر الخلافات بين مختلف اعضاء الحكومة، علماً أن رئيس الحكومة تمام سلام يجمع كوكبة من الوزراء المتفاهمين من حيث المبدأ على ضرورة قيادة هذه المرحلة في لبنان بالحد الأدنى من الخسائر والأضرار، كما ان تمام سلام وهو خريج المدرسة العريقة في السياسة في لبنان، الرئيس صائب سلام، يعرف كيف يتعاطى مع القضايا الساخنة التي تواجه لبنان في هذه الآونة بمزاج هادئ.
اذاً… تأكد الآن ان «فخامة الفراغ» صناعة لبنانية!
فهل سيكون البديل صناعة مستوردة ؟!
وها قد بدأ عهد فراغ الرئيس الثالث عشر الآتي باسم العجز!
وبدأ على الفور تقويم الأدوار التي قام بها الرئيس ميشال سليمان خلال فترة رئاسته. ويقتضي الإنصاف الاعتراف بأن عهده شــهد العديد من الفترات المضطربة في البلاد وهوعمل على التعاطي معها بقدر من الحكمة علماً أن فتره السنتين الأخيرتين من حكمه شهدت بعض التحولات في مواقفه، وأكثر تحديداً لـ «حزب الله» والحلفاء، علماً أنه ذكر في بعض خطبه العامة انه «سيرعى المقاومة برموش العيون». لكن اعقب ذلك وصف الرئيس سليمان لطروحـــات المـــقاومة ومــنها شعار: الجيش والشعب والمقاومة، بأنها «معادلات خشبية» وهذا ما اغضب حزب الله والحلفاء من رئيس الدولة.
كذلك حرص الرئيس في الفترة الأولى من ولايته على الإبقاء على حد ادنى من العلاقات الجيدة مع سورية، لكن تطور الحرب في الداخل السوري، ونقل السيارات المفخخة من سورية الى لبنان افقد هذه العلاقة كل الدفء، وتوقف الرئيس سليمان عند التساؤل لماذا لم يتصل بي الرئيس بشار الأسد؟
وفي احد اللقاءات مع الرئيس ميشال سليمان، وكان الحديث عما يجري في سورية وفي عدد آخر من الدول العربيه في الفترة التي عرفت بتسميتها الحركية «الربيع العربي»، قال لي: «إن افضل الحلول لكل المشاكل القائمة في العالم العربي يكون باعتماد «امتيازات» النظام اللبناني؟».
وعندما عبرت عن بعض المفاجأة انصرف الرئيس سليمان للحديث عما يتصف به النظام في لبنان، وأن نفس هذه الوصفات يمكن ان يجري تبنيها من جانب الأنظمة العربية الباحثة عن الحرية وعن الديموقراطية.
وفي مناسبة اخرى وجدت الرئيس ميشال سليمان مزهواً بالتوصل الى اعتماد «اعلان بعبدا»، وراح يعدد محاسن هذا الإعلان، فاعتبر «ان له قوة النص الدستوري، وأن الإعلان تم ايداعه في الجامعة العربية ومنظمة الأمم المتحدة». وكان الرئيس سليمان يرمي من وراء التوصل الى اعلان بعبدا اخراج البلاد من قبضة تجمّعي 8 و14 آذار.
وفي العودة الى المرحلة التي يجتازها لبنان حالياً.
اولاً: ان عدم تمكن مجلس النواب اللبناني من انتخاب رئيس جديد للجمهورية يعني بالدرجة الأولى سقوط اللبننة في هذا الاستحقاق، ولأن البلد منقسم على نفسه أفقياً وعمودياً (خاصة) فما من طرف يستطيع تأمين الأكثرية التي تضمن له انتخاب رئيس للجمهورية. والأمر الوحيد الذي يؤمّن عملية الآنتخاب هو تمكن فريق الثامن من آذار، أي العماد ميشال عون وحزب الله وحركة أمل وبعض الأحزاب الأخرى من احداث «اختراق» في تجمع الرابع عشر من آذار وعماده تيار المستقبل بقيادة الرئيس سعد الحريري.
ورغم الكلام الهامس عن وجود اتصالات بين الأقطاب، فإنها لم تصل الى خواتيمها بعد، وكل طرف يبدو حذراً من الطرف الآخر في التعاطي مع منح اصواته النيابية الى هذا المرشح او ذاك.
ثانياً: ان فشل الزعماء اللبنانيين في الاتفاق على رئيس جديد لجهوريتهم يحتم في هذه الحال التوجه الى «الخارج»، وقد تعوّد لبنان في مختلف مراحله على التعاطي مع الخارج كمنقذ. لكن هذا «الخارج» ليس في وارد الاهتمام بالأوضاع اللبنانية، لذلك نحن امام المعادلة التالية: فشل حل اللبننة وعدم نجاح حل «الخارج» حتى لا نقول «الخوارج».
ثالثاً: مرة بعد مرة يتأكد ان ما يعاني منه لبنان ليس ازمة تأليف حكومة، او ازمة انتخاب رئيس جديد للجمهورية، بل هي ازمة تأليف وطن («الحياة» السبت 25 كانون الثاني/ يناير 2014). فهذه الصيغة التي ظهرت مع ولادة الاستقلال الأول في العام 1943 اصيبت مع الزمن بالترهل والإرهاق لا بل ببعض «الصدأ القومي»!
ولا بد من اجراء مراجعة جذرية وفي العمق للتفاهم على اسس جديدة لمجموعة الطوائف اللبنانية، مع الابتعاد عن التسميات التي تثير هواجس هذا الفريق او ذاك.
فليتوقف تسوّل بعض اللبنانيين بحثاً عن رئيس جديد للجمهورية خارج حدود الوطن، فأي «خارج» سيكون مهتماً بمعالجة المشكلات اللبنانية وهل الخارج جمعيات خيرية لا تبغي الربح؟
وإذا ما تركنا الداخل اللبناني ولو لبرهة واتجهنا بانظارنا الى سورية، لنطرح السؤال الكبير المحير: هل يعقل ان تجرى انتخابات رئاسية في سورية، ولا يمكن اجراء مثل هذه الانتخابات في لبنان؟ ونحن لا نردد هذا السؤال تشبهاً «بالنموذج السوري» بل لملاحظة كيف اننا نعايش عصر اللامعقول عندما يصبح معقولاً.
بعد اربع سنوات (تقريباً) من الحروب الشرسة على مختلف الأراضي والمحافظات السورية، يبرز الرئيس بشار الأسد «من تحت الأنقاض» ليطرح نفسه من جديد على انه منقذ سورية، بعد ان اكدت كل الخطط الغربية والشرقية التي اعدت لتقويض حكمه فشلها، وهي انظمة لم تتغلب على الرئيس الأكثر تكلفة في التاريخ، بشار الأسد («الحياة» السبت 6 تشرين الأول /اكتوبر 2012). على ان يوم الثالث من حزيران (يونيو) الآتي ستجرى الآنتخابات في سورية بمن حضر نظراً للظروف المعروفة والتي هجّرت الملايين من السوريين الى دول الجوار وبخاصة لبنان الذي يعاني الكثير من المتاعب مع ارتفاع عدد النازحين السوريين اليه الى ما يزيد على المليون ونصف المليون يتوزعون بين مناطق الشمال وعكار، والجنوب والبقاع.
على ان اخطر ما يرافق الحديث عن اجراء الانتخابات الرئاسية في سورية ان من سيشملهم هذا الانتخاب، سيعطون غالبية اصواتهم الى «المنقذ» بشار الأسد. لكن الموضوع لن ينتهي هنا، مع وضع نقطة على السطر. بل الأخطر هو الحديث الآتي عن اقتراب مخطط التجزئة والتقسيم من اتخاذ خطوت عملية تفضي الى تكريس تقسيم سورية كأمر واقع.
لقد اعدت دراسة معمقة من جانب مؤسسة بحثية دولية ركزت على «الآثار المدمرة للحرب في سورية». وأهم ما فيها هو الآتي:
أولاً: خلال العمليات العسكرية والجارية من دون انقطاع بين جيش النظام وقوات المعارضة على تعددها، جرت وتجري عمليات فرز طائفي ومناطفي وعرقي، وكلما طال امد تواصل العمليات العسكرية حدث المزيد من «النزوح» في الداخل السوري، وصار اكثر كثافة وتأقلماً مع واقع الحال، لذلك ومع مرور الزمن اذا لم يتمكن النظام من استرداد سيطرته الكاملة على كل الأراضي السورية، وحيال فشل القوات المقاتلة المحتشدة في سورية من كل حدب وصوب في تقويض نظام بشار الأسد، فإن الوهن بدأ يتسرب الى صفوف المقاتلين المعارضين، فضلاً عن الأخطار الناشئة عن الحرب الأخرى المستقره في الداخل بين مقاتلي جبهات «داعش» و»النصرة». وفي نفس هذا السياق قام رئيس تجمع الائتلاف السوري احمد الجربا بزيارة واشنطن، لكن لا هو ولا الرئيس باراك اوباما الذي اجتمع به «مصادفة في مكتب مستشارة الرئيس لشؤون الأمن القومي سوزان رايس»… تطرق الى الحديث عن تزويد قوات المعارضة بأسلحة نوعية يمكن ان تحدث اختراقاً في سير المعارك.
لكن القناعة الراسخة لدى الغرب الأميركي منه والأوروبي لم تعد تميل الى تزويد المعارضة (وأي معارضة) بأسلحة ثقيلة مضادة للدورع وللطائرات كما يطالب الجربا.
وفي الحديث عن «تقسيم سورية»، فنحن لا نقوم بــ «تسويق» فكرة التقسيم، بل نحن نرصد ما ستؤول اليه التطورات اللوجستيه والميدانية، حيث يلاحظ متابعون عن قرب لما يجري ان طبيعة التدمير الشاملة التي تشهدها المدن والمناطق السورية على اختلافها تحتاج الى وقت طويل لإعادة إعمارها وتأهيلها، هذا اذا توقفت الحرب، وهذا الأمر يؤدي الى الحقيقة الآتية: إن سورية «السابقة» لن تعود الى سابق عهدها وإن إعادة إعمار ما تهدم وما سيتهدم يحتاج الى وقت طويل. لذا ومن هذه المعطيات اضافة الى المعطيات الأخرى غير الظاهرة للعيان، فإن الرئيس بشار الأسد سيكون رئيساً لسورية «بمن حضر».
وفي الكلام الأخير:
قبل إلقائه خطبة الوداع بساعات قليلة عادت ذاكرة الرئيس ميشال سليمان الى الأحداث التي سبقت الاتفاق عليه كرئيس توافقي. وكان لديه من الشجاعة ان يعرب عن اسفه لهذه الصيغة لبلوغ رئاسة الجمهورية، والأخطر من ذلك هو التساؤل الآتي:
هل يعقل ان يكون لبنان عرضة لأحداث مماثلة او شبيهة بما حدث في 7 أيار وذلك في سعي من اي طرف لإحداث «خرق ما» في الجدار المسدود المانع لإجراء الانتخابات الرئاسية.
اذاً… في ضوء ما جرى حتى الآن نقول:
هناك رئيس لم يحضر بعد ولم تنضج «طبخته» حتى الآن لكن هناك من يصنع الرئيس في لبنان.