ما يميّز إيران عن «طالبان» كثير وبيِّن، فالأولى دولة قوية تترجّح بين أقصى الحداثة في تحصيل العلم والسلاح وبين أقصى التخلّف في السياسة والاجتماع. أما الثانية فلا تزال مجرد «حركة» سيطرت على بلد وظلّت أقرب الى شلّة مقاتلين خارجين لتوّهم من جاهليةٍ ما، فلم تنجح في بناء دولة. لكن ما يجمع بينهما مهم، فهناك عداء عقائدي ومذهبي مستحكم، وهناك التقاء سياسي موضوعي على كراهية اميركا والغرب. وفيما تقارب ايران مع الغرب من أجل مصالحها، فإن «طالبان» افتقدت براغماتيةً كهذه، أما عداؤهما فيبدو أنه شهد نوعاً من الهدنة أو تجسيراً للهوّة عبر تنظيم «القاعدة».
فأهم ما يجمع بين الاثنين أن «طالبان» سهّلت ولادة تنظيم «القاعدة» وقدّمت لمؤسسيه الملاذ والدعم وكل أسباب الوجود، أما ايران فتلقّفت التنظيم بعد ضربه في افغانستان ثم أعادت انتاجه وتوظيفه. وإذ تعد «طالبان» نفسها، واهمةً أو مبالغةً في تقدير حظوظها، بالعودة الى الحكم بعد مغادرة الاميركيين، فإن «القاعدة» لن يكون هذه المرة من أولوياتها على رغم تعاطفها معه. أما إيران فأضافت «القاعدة» الى أوراق النفوذ التي ستساوم عليها في صفقة «السلاح النووي مقابل النفوذ السياسي»، وأتاحت لها الأزمة السورية أن تذهب في استخدام «القاعدة» الى حدٍّ أقصى، بل أضافت نموذجاً مستنسخاً لهذا التنظيم سواء بإقحام «حزب الله» في هذا الصراع أو بالتعبئة والتجنيد في مختلف البيئات الشيعية.
وعدا أن «حزب الله» جعل قتاله في سورية بمصاف «الجهاد» ضد اسرائيل، فإن سورية أصبحت وجهة «المجاهدين» العراقيين الذين يقدّمهم الاعلام المحلي كأبطال يتحدثون عن انجازاتهم ويفتخر بعضٌ منهم بإشهارها حتى في اعلاناته الانتخابية باعتبارها ميزة لن يتجاهلها الناخبون، ما يعني أن حكومتهم تقرّ بمشروعية قتالهم في بلد آخر، طالما أنها خاضعة كلياً للمشروع الايراني. أما «الجهاديون» السنّة – «التكفيريون» وفق المصطلح الايراني – فلا يقصد أي منهم سورية برغبةٍ أو تشجيعٍ من جهة رسمية، بل انهم «مطلوبون» ومطاردون من حكوماتهم. والأنكى أنهم لا يعرفون أنهم مجرد أدوات في لعبة النظامين السوري والايراني، بل لا يعرفون أنهم لا يعرفون.
حار كثيرون في تفسير الصمت الغربي، تحديداً الاميركي، على هذا الدور الايراني في ادارة الحالتين «القاعديتين» المتباينتين مذهبياً. فهناك مَن يشير تارةً الى النقص وأحياناً العجز الاستخباري، ليناقضه طوراً مَن يؤكد العكس، أي أن الأجهزة الغربية المعنية تعرف الكثير لكن لحكوماتها أولويات. فبعضها سلّم عملياً بالأمر الواقع معتبراً أن ايران سبقت الجميع وبرهنت أنها متحكّمة بالوضع السوري وأن النظام نفسه بات راضخاً لها طالما أنها (مع حكومة بغداد) تقدّم له مساعدة مالية شهرية وتدفع فواتيره كافة وتأتي بالخبراء والضباط والمقاتلين وتخوض المعارك وتحقق له «انتصاراته». وبعضٌ آخر من الحكومات يميّز بين «القاعدتَين»، على رغم أنهما تصبّان في مصلحة طهران – دمشق، مؤجلاً البحث في تفكيكهما الى ما بعد الاتفاق النووي النهائي.
لكن ايران تدرك أن هذا الاتفاق سيجبرها على القبول بخفض صارمٍ لليورانيوم، لذا فهي استبقته بتخصيبٍ متصاعد ومنفلت للحالات «القاعدية» التي ترعاها كما لو أنها قنبلتها النووية الحقيقية. وإذ بدأ الجانب الاميركي يطرح، كما كان متوقعاً، ملف الصواريخ «ذات القدرات المتعددة المراحل» التي تواصل ايران تطويرها، فإنه يطرح من جهة عروض تسلّح جديدة على دول الخليج، ويلوّح من جهة اخرى بأن التفاوض النووي سيصطدم بعقبات قد تؤجل انجازه في موعده. لكن الاميركيين واصلوا صمتهم المريب حيال «الأفغنة» الممنهجة للوضع السوري، وبقيت اشاراتهم بين حين وآخر الى «الدعم الايراني للارهاب» مبهمةً وواهيةً ومدعاةً للتساؤل. وتتعدّد الآراء في تحليل هذا الموقف. فمنها ما يقول إن ثمة مصلحة اميركية في تصدّي ايران لـ «الارهاب» الذي لا تزال هويّته في الأذهان «جهادية سنيّة»، وفي ذلك جهل للتحوّل الذي طرأ على العقل المدبّر للتنظيم وقصور في فهم ايران وأساليبها، فهذه دولة باتت وريثة «طالبان» وشريكة للنظام السوري في رعاية الارهاب. واذا كان التأريخ لـ «الارهاب القاعدي» يعيد جذوره الى حقبة الدعم الاميركي للمجاهدين الأفغان والأخطاء التي ارتكبت بعد انسحاب السوفيات، فإنه سيسجّل أن الايرانيين وحدهم استفادوا من تلك العلاقة المبتورة وعرفوا كيف يقولبونها ويكيّفون الظاهرة الارهابية التي نتجت مع مشروعهم.
ومن الآراء أيضاً ما يقول تبسيطاً إن الحاصل راهناً هو انعكاس لصراع سعودي – ايراني. لكن هذا لا يبرر الصمت الغربي – الاميركي، بل على العكس يزيد الشكوك فيه، خصوصاً أن منطلقَي السياستين السعودية والايرانية بالنسبة الى سورية مختلفان تماماً. فليس عند الرياض المفهوم ذاته للمصلحة أو للنفوذ، كما عند طهران، ولم يسبق لها أن أوصت بـ «العسكرة» أو دفعت اليها، وكانت للسعودية علاقة وثيقة بالنظام السوري لم تهتزّ وتخرب إلا في مرحلة الأسد الابن، ومع ذلك ظلّت تمدّ اليه يد التواصل والتصالح، ولم تنقلب ضدّه إلا بعدما تيقنت من أنه لا يملك سياسة اخرى غير القتل. أما ايران فهناك أكثر من دليل على أنها حرّضته منذ الأسابيع الأولى على استراتيجية العنف لمواجهة «المؤامرة» عليه بسبب «وقوفه في صف المقاومة». وعلى أي حال، وافق هذا التحريض مزاج بشار لأنه يعلم جيداً أن نظامه لا يحتمل هزّة داخلية لكنها حصلت، ولا يستطيع تقديم تنازلات ثمناً لاستمراره، ولا يمكنه البقاء في الحكم اذا لم يرضخ الشعب لبطشه.
كانت سورية دولة يُعتمد عليها، الى جانب مصر، في رسم استراتيجية دفاعية عربية وبالأخص في مساندة السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي. لكنها في عهد الأسد الابن خرجت من المعادلة والتحقت بإيران في «محور الممانعة». وفي غياب مصر ثم سورية منذ العام 2011 أصبحت السعودية فعلاً في قلب الصراع مع ايران، ومع ذلك يبقى الموقف السعودي في سورية أكثر وضوحاً في أنه يريد الحفاظ على البلد ووحدته، أما إيران فيزداد الاقتناع بأنها تجاوزت كل الأسباب والاعتبارات التي توقفها عن الدفع في اتجاه تقسيم سورية، تماماً كما فعلت سابقاً في العراق وإلا لكانت فرضت على حكومة بغداد سياسة اخرى غير التي يتّبعها نوري المالكي. ولا تطمئن طهران الى أي نفوذ تحصّله إلا اذا كان لها وجود راسخ على الأرض، كما هي حالها الآن في العراق (من خلال «حزب الدعوة») وسورية (بجعل النظام تحت رحمتها) ولبنان (من خلال «حزب الله»). في كل السيناريوات المتصوَّرة لم تخطط السعودية لنفوذ على هذا الشكل، ثم إن هذه الدول عربية ومن غير الوارد التفكير في السيطرة عليها بأسلوب عسكري مذهبي كهذا، وفي المرّة الوحيدة التي اضطرت للقيام بتدخل، كان ذلك في البحرين وبطلب من حكومتها وفي اطار مجلس التعاون.
يُلاحظ بالتزامن مع التطورات العسكرية الاخيرة في سورية أن ايران وأتباعها يصرّون على ابراز مصطلح «الصراع السعودي – الايراني»، فيما تركّز طهران على مصطلح «التقارب مع السعودية»، وكلاهما يشرح الآخر، فإيران تبحث عن مساومة وتسوية. لكن السعودية لا تملك – ولا تسعى الى امتلاك – ما يمكن أن تعطيه أو تأخذه في سورية، فإذا عادت سورية الى شعبها تكون السعودية قد حصلت على ما تريده. ولكن ما الذي يمكن أن تتوقعه من ايرانٍ تعتبر نفسها «منتصرة»: دعوة الى تقاسمٍ للنفوذ؟ أي أن ايران ستتنازل عما ليس لها أصلاً لمن ليست لم تسعَ اليه أصلاً. فعلامَ تريد مساومة، اذاً؟ بلا أي شك، ستطلب ايران أن تُعطى في الخليج مقابل ما تعتقد أنها تملكه وتستطيع التنازل عنه في سورية.