شعراء البلاط المفترضون مشغولون. بعضهم يكتب قصائد للعماد جان قهوجي، وبعض آخر للحاكم رياض سلامة، وثالث يطبّل ويزمّر للوزير السابق جان عبيد. لذا قرّر الرئيس ميشال سليمان أن يضيف إلى ألقابه الكثيرة لقب الشاعر، مصالحاً في خطاباته السياسة مع اللغة العربية
يمكن تخيّل الآتي: يوم الجمعة الماضي، غادر الطباخ وعمال النظافة والصحافيون المعتمدون وكل الموظفين قصر بعبدا في موعد مغادرتهم الثابت. أطفئت الأضواء في كل غرف القصر باستثناء مكتب الرئيس. كان الرئيس ميشال سليمان ينفث دخان غليونه في سماء الغرفة، تحاول خطواته اللحاق بأفكاره المتحركة يميناً وشمالاً. وقبيل إشراقة شمس السبت بقليل، خطّ قلمه الآتي: «في دير القمر، أضلّ الزمن طريقه.
هوذا الحاضر يعتمر قبعة الماضي». يراجعها مراراً، كل مرة بنبرة مختلفة، متخيّلاً ردود فعل الحاضرين، وجلّهم ضباط في الحزب التقدمي الاشتراكي. يسارع إلى شطب ما سبق ليكتب: «في دير القمر، لا يضلُّ الزمن طريقه. يأخذنا إلى ماض يعتمر قبعة الحاضر». ويمضي القلم «السيّال» في مزيد من الإبداع: «ليس من ماضٍ ولو سحيقاً يمضي. هو يقفز من حجارةٍ قديمة. من أزقِّةٍ عتيقة. من وجوه تطوف فوق العتبات والقناطر لتستقرَّ في الذاكرة والمساحة البيضاء في ضمير الوطن». وتتالى الومضات في فضاء الأدب العربيّ: «كلُّ مكان ذاكرة. وباطن الذاكرة ذكرى وحدث».
يعيد الرئيس ـــ في كل خطاب ـــ إلى الخطاب السياسي أدبيته. لا الأزمات السياسية المتعاقبة، ولا الأوضاع المتفجرة أو غيرها، تشغله عن كتابة قصيدته. يحتار رؤساء تحرير الصحف إن كان عليهم نشر الخطاب في قسم السياسة أو الثقافة. كل خطاب ندوة فكرية، وكل سطر معضلة شعرية. كان في ودّ الرئيس أن يزاحم الدكتور أدونيس العكرة على رئاسة اتحاد الفلاسفة العرب، وكان في وسعه أن يحرج كبار الكتاب فيخرجهم من السباق، لكنه آثر الانضواء في المؤسسة العسكرية. ساير سليمان القدر خمسين عاماً ولم يلبث أن حقق حلمه.
يعيد الرئيس في
كل خطاب إلى الخطاب السياسي أدبيته
في التعازي، كما التهانئ، ومختلف المناسبات، سواء التربوية أو السياسية أو الاقتصادية أو الأمنية: ما عليك سوى انتقاء بيتين وتردادهما ببطء، في منتهى الجدية. انظر حواليك وآمن بنفسك؛ ها هو جابي الضرائب يتحول إلى «متذوق شعر» بعد ترداده قصيدة استعان بأغنية أم كلثوم ليحفظها. وها هو رئيس الميليشيا يطوّع اللغة بين يديه، مغدقاً على اللغة العربية مفردات جديدة. «ضع نظّارة، ردّد بعض أبيات الأخطل الصغير، ودسّ سائقك بين الجمهور لإشعال فتيل التصفيق»، وخذ ما يدهش العالم.
تناهت النصيحة إلى مسمع الرئيس ميشال سليمان. فثبّت نظارته، وسيطر على أعصابه، وشق عبر حفظ بعض أبيات الشعر طريقه المختصر. ليس في وسعه أن يكون الرئيس التوافقي ولا رئيس المؤسسات أو رئيس الحلول أو رئيس الشراكة، فليذكره التاريخ، إذاً، بوصفه الرئيس الشاعر، الذي ما زال ينتظر اتصالاً من الرئيس السوري بشار الأسد.
من القائل: «إنّ الناس لا تعرف التاريخ الذي تصنعه، إلا بعد أن يصير تاريخاً»؟ الرئيس سليمان. من قال إن «على التاريخ تسجيل الحروب والمآسي التي ينجح الحاكم في تلافيها، لا الاكتفاء بتلك التي تسبب بإشعالها»؟ الرئيس سليمان. وهو القائل، أيضاً، إن «بلدنا عريق في ديمقراطيته ولطالما تميّز بفعالية مؤسساته». وخلال افتتاح المرحلة الاولى من أعمال توسعة محطة الحاويات في مرفأ بيروت، دهش المتعهدون وعناصر الجمارك والعتالين بـ«تحفة» الرئيس الأدبية: «العواصف لا تدوم ولكنها تترك وراءها دائماً الخراب والدمار». ولا يكاد يخلو خطاب رئاسي من لمعة مماثلة. في زوق مكايل، قال: «الحياة لا تقيم في منازل الأمس»، إنما الحياة في منازل المستقبل طبعاً. وخلال منحه الروائي أمين معلوف وسام الأرز من رتبة الوشاح الأكبر، أكّد أحقيّته بالوسام عبر قوله إن «الحياة المخطوطة بالكلمات عنوان آخر للحرية، في وجه كل أولئك الذين يكوّنون قناعات تعتمد على طرق مغايرة»، حتى ولو كان المعنى في قلب الشاعر فقط. أما في مؤتمر جامعة الكسليك «أرضي: غدٌ واعد»، فقد حوّلت عبارة «المعادلة الخشبية» الأنظار عن النص الأدبي الاستثنائي لفخامة الرئيس، حين قال: «لا أحد يأتي من اللامكان، أو يقيم معلّقاً بين فناء وفضاء. فالأرض هي العنصر الأساس، لتجسيد الانتماء وإشهار الهوية». أما في بريح، أول من أمس، فزبدة العظة اختصرت في العبارة الآتية: «إنَّ الإخلاص للوطن يقتضي قبوله كما صنعه التاريخ. وفي التاريخ أوجاع كثيرة. لكنَّ الإيمان ينمو بالوجع والمعاناة، والوجع يقيمنا في المسؤولية ويرفعنا الى القمم».
كتاب إنجازات العهد الذي تعكف على طباعته الدار التي طبعت كتاب إنجازات وزير التربية السابق حسان دياب، سيرفق بكتيّب يتضمن أهم أقوال الرئيس ميشال سليمان وحكمه. وخلافاً لما كان يشيعه الخبثاء عن نيته الترشح إلى رئاسة مجلس بلدية عمشيت بعد مغادرته القصر في ٢٥ أيار، أو قيادة أحد نوادي كرة السلة، أو تأسيس حزب «إعلان بعبدا»، يبدو أن الرئيس يتجه إلى تأسيس دار فكر. وفي حال كان الرئيس أمين الجميّل يفاخر بكتابته نحو عشرين كتاباً، فإن أمام سليمان متسعاً من الوقت لكتابة أربعين كتاباً.
سيذكر التاريخ أن أسلاف سليمان انشغلوا بأخبار السياسيين الجنسية وتركيب النكات البذيئة والسباحة وممارسة التمارين الرياضية، أما هو فما كان ينام قبل أن يقرأ كتاباً ويكتب قصيدة، مستبدلاً المسبح الخاص بمكتبة عامة، والخطابات السياسية العبثية بخطاب أدبي رفيع. اللهم إلا أن يطلب منه صحافي مرة توضيح قصده بهذه العبارة أو تلك، ويكون كاتب الخطاب مشغولاً.