IMLebanon

شغور الرئاسة وانكشاف الدولة

 

شغور موقع رئاسة الجمهورية لن يكون حدثاً بلا تداعيات على مجمل النظام السياسي. أن تتولى الحكومة مجتمعة صلاحيات الرئاسة الأولى وكالة تثير إشكالات سياسية بصرف النظر عن التفسير الدستوري. أول الاعتراضات ستحمل راية “الميثاقية” والتوازن الوطني والمشاركة، وربما سنشهد حركة تعطيل مقابلة لتعطيل انتخابات الرئاسة.

الأزمة الراهنة أزمة نظام بلا شك، لكن ليس بمعنى غياب الآليات الدستورية لحل المشكلات، بل بمعنى أعمق وهي طبيعة القوى السياسية التي أفرزها وهي لا تخضع للقواعد والمعايير السائدة. بشكل أو بآخر يتراجع دور القوى الداخلية لمصلحة تدخلات الخارج من أجل إنتاج تسوية جديدة أو نكون أمام صدمة سياسية قوية تساعد على إنتاج التسوية الداخلية. كل ذلك يدل على الكلفة غير المعقولة التي يتحمّلها اللبنانيون جراء نظامهم وواقعهم السياسي.

لا يظهر حتى الآن أن الطبقة السياسية جاهزة لقبول إصلاحات تخرجها من الأزمات الدورية من خلال توسيع هامش المعطيات الديموقراطية بدءاً من قانون الانتخابات النيابية. هذه الثنائية الانقسامية التي سيطرت على الحياة الوطنية يرغب طرفاها في تعديل التوازن نحو الغلبة وليس نحو تعددية أوسع. والغلبة مرهونة لتطورات إقليمية يعتقد الطرفان أنها ستؤدي إلى تقاسم نفوذ يعطي لهذه أو تلك من الدول الفاعلة أرجحية في هذا البلد أو ذاك. أصبح معلناً وموضع تداول عرض الدول الإقليمية للقيام بدور الوكيل المحلي أو الشريك في تقاطع المصالح والأهداف مع الدول الكبرى. بل يكاد يتنافس الجميع في المنطقة على أداء مهمة “مكافحة الإرهاب” ومواجهة التطرف والتصدي لكل الحركات والتيارات التي تهدد “الأمن”.

وبالفعل بلغنا مرحلة من التطور السياسي نكاد لا نرى في المنطقة أية مشكلات أو تحديات أو قضايا إلا “الأمن” بفروعه ومنوعاته، من اليمن إلى شمال أفريقيا، ومع هذا المشهد يتقدم العسكر والضباط أو من يمثل هذه النواة الصلبة إلى الواجهة على حساب كل خطاب نشر الديموقراطية والحرية والتعددية وقضايا التنمية.

ليس هذا الواقع مفتعلاً بالطبع من قوى خارجية وإن كان يلائمها ويصب الماء في طاحونة أهدافها. في البلد الأكثر ارتباطاً بالإرث الديموقراطي اتجهت الأنظار ولا تزال منذ عقدين نحو اختيار رئيس للجمهورية وفق مواصفات ترتبط بالحاجة إلى الأمن. لا ننكر تلك الحاجة ولا هذه المهمة في لبنان ومحيطه العربي لكننا نعتقد أن الأداة أو الوسيلة المقترحة دليل فشل سياسي لأنظمة ولثقافات سياسية ولقوى أثبتت عجزها عن الاحتفاظ ببعض المكتسبات الديموقراطية، أو ببعض الهوامش التي اتسعت في بعض الدول العربية خلال العقد الأخير. طبعاً الديموقراطية هي نظام لإدارة العلاقات السياسية وتداول السلطة بصورة سلمية وهي تتنافى مع التشكيلات المسلحة والعنف. فليس من انتخابات تجري في العالم العربي الآن وهي ديموقراطية بل مجرد احتشاد سياسي واستعراض قوة يعبّر عن نفسه في صناديق الاقتراع. وها نحن قد بلغنا هذه المرحلة في لبنان. فلا انتخابات نيابية أو رئاسية إلا حين تكون مضمونة النتائج بالنسبة للطرف الذي يقبل الاحتكام إليها. وفي لبنان هناك دائماً تداعيات طائفية لكل تأزم سياسي. فلا نملك أن نقترح حلولاً أو مخارج لتوازن العلاقات بين الجماعات الطائفية لا سيما أنها باتت محكومة لأحزابها السياسية وطموحات ومصالح هذه الأحزاب وليس إلى حقوقها كجماعة. موقع الرئاسة اللبنانية مضمون لفئة معينة ولكنها عاجزة عن ممارسة أداء سياسي تجاه الآخرين يؤمّن لأحزابها الفوز كما تشتهي.

يردّنا الواقع بسرعة إلى العلاقة الجدلية القائمة بين النظام السياسي وحتى بناء الدولة والقوى السياسية. فمهما كان تقدم الدستور أو النظام أو تخلّفهما فالمشكلة الأساسية في طبيعة القوى الفاعلة. ومن المفارقات الظاهرة أننا لا نجد الأحزاب السياسية الفاعلة قادرة على ممارسة العملية الديموقراطية.

من جهة هي صاحبة خطاب إملائي وصائي على النظام ومن جهة هي تمارس لعبة تعطيل آليات العمل الدستوري.

هل سيكون لفراغ موقع الرئاسة الأول التأثير الصادم والمحرّك لحوار وطني إصلاحي يؤثر في تكوين الجماعات السياسية؟ أم أننا نتوغل أكثر في الاتكال على تسويات الخارج ومساعدته في إنتاج الحلول اللبنانية؟

في المدى المنظور المشهد الثاني هو المرجّح.