مرّت كل الإمبراطوريات التاريخية، عبر التاريخ البشري الطويل، بأربع مراحل متشابهة: مرحلة الولادة، مرحلة التثبيت، مرحلة الذروة وأخيراً مرحلة الإنحدار والإفول.
هذه الإمبراطوريات، وإن لم تتشابه فاختلفت سواء في طول فترة كل منها، أو في طول فترة كل مرحلة من هذه المراحل الإربع؛ إلا أن هذه المراحل تشكل قاسماً مشتركاً لكل تلك الإمبراطوريات الكبرى والصغرى، القديمة والحديثة.
تأتي الامبراطورية الفارسية الشيعية ضمن هذا الإطار العام. وقد شهدت ولادتها في طهران مع ثورة الإمام الخميني، عندما أطاح حكم الشاه عام 1979. وكانت سلالة الإخير (الوالد والابن) حكمت إيران لأكثر من نصف قرن. ومنذ اللحظة الإولى لولادة الإمبراطورية الجديدة، أيقن الإمام الخميني، زعيم الثورة، أن مرتكزات إمبراطوريته المستحدثة تستند إلى أسس عديدة أهمها: الإسلام كمنهج للحكم، النظام في المذهب الشيعي، ودينامية هذا النظام الهرمي، السيطرة على مجال إيران الحيوي الذي تختصره المنطقة الواقعة بين إيران شرقاً والبحر الإبيض المتوسط غرباً. فأن تكون فارسياً شيعياً، هذا يعني أنك تنتمي إلى أقليتين داخل الإسلام: أقلية عرقية فارسية، وأقلية مذهبية شيعية لا تتجاوز 15% من المسلمين في العالم.
باستعراض كل هذه المعطيات، تأكد للإمام أن الدخول إلى المنطقة الحيوية والسيطرة عليها، يفرض عليه حمل راية القضية الفلسطينية لتكون الجوهر الإساسي في تحريك عناصر الامبراطورية واستغلالها للسيطرة على المنطقة وتثبيت امبراطوريته المذهبية. وهكذا اعتمد مبدأ تصدير الثورة بواسطة المذهب الشيعي، الذي شكل في حينه روح الثورة، عبر العراق الجار، الذي يشكل الحاجز أو المفتاح الطبيعي الإقوى الفاصل بين إيران ومجالها الحيوي، وحمل راية القضية الفلسطينية التي تشكل الدينامية الكبرى للتوسع.
لن أدخل في مرحلة الولادة، أو مرحلة التثبيت وصولاً إلى ذروة الإمبراطورية عام 2010، لأن ذلك ليس موضوع البحث؛ لكن أكتفي بمرحلة الإفول التي بدأت عام 2010 مع إطلالته إلى شبه الذروة، مؤكدة ضعف مرحلة التثبيت التي شيدت على عناصر مصطنعة. فالذروة في الامبراطورية الفارسية، تزامنت مع أذرع إيران العسكرية في منطقة الشرق الإوسط، عبر مملكة البحرين بإشغال المناهض الطبيعي لقيام أمبراطوريتها، أي المملكة العربية السعودية؛ كذلك باستدراج المملكة السعودية نفسها إلى القتال على حدودها الجنوبية مع اليمن في مناطق الحوثيين المتنازع عليها بين الجانبين.
كما بلغت الذروة في هيمنتها الكاملة على العراق ومصير العراقيين، بحيث أصبح نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي بمثابة واليها الفارسي في بغداد. وفي سوريا، التي كانت سابقاً بمثابة حليف أيام الإسد الإب، تحول النظام في عهد بشار تابعاً للامبراطورية الفارسية الشيعية الإيرانية. وصولاً إلى لبنان، الذي حكمته كإحدى محافظاتها، عندما أطاح “حزب الله” (حرسها الثوري في لبنان) حكومة الوحدة الوطنية، ليستولي بمفرده على السلطة، ويدير بإسم الولي الفقيه دفة الحكم في لبنان. إنتهاء بقطاع غزه الذي يدفع الثمن الإغلى من دماء أبنائه لتثبيت الإمبراطورية على حساب قضية فلسطين.
لم تدم مرحلة ذروة الامبراطورية طويلاً، لافتقارها،أولاً إلى العناصر المسوّغة التي تنشدها مجتمعات القرن الحادي والعشرين؛ وثانياً لأن التوسّع الإمبراطوري لإيران، اعتمد على العنف كوسيلة سريعة لتصدير الثورة، وفرض السيطرة على الشعوب المستهدفة؛ وثالثاً لانكشاف الدور السيئ الذي تمارسه طهران في استغلال قضية المنطقة المحورية فلسطين، والمتاجرة بها على حساب وحدة القضية ومستقبل الفلسطينيين في إصرارها على تعمّد ضرب الوحدة الفلسطينية، كمبدأ استراتيجي للدخول إلى المنطقة.
معالم شيخوخة الإمبراطورية وملامح أفولها، ظهرت تباعاً خلال العامين المنصرمين. فالعقوبات التي فرضها مجلس الإمن الدولي على إيران بسبب رفضها التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، أصاب اقتصاد الإمبراطورية بضربات موجعة يصعب عليها الخروج منها إن لم تراجع موقفها وتتعاون مع الإسرة الدولية. ففي شهر كانون الإول عام 2012 أقرّ شمس الدين حسيني، وزير الإقتصاد الإيراني، أمام وسائل الإعلام الوطنية “بأن عائدات النفط انخفضت في إيران إلى النصف”. والخبراء من جهتهم قدروا أن صادرات النفط الإيرانية انخفضت بنسبة 60% مسجلة بذلك خسارة 120 مليار دولار من المبيعات خلال العامين الإخيرين. أضف إلى ذلك قضية تجميد احتياطها النقدي القابع منذ سنين في مصارف الغرب؛ وإخراج مصارف إيران من منظومة التبادل الإوتوماتيكي الدولية للعملات Swift، ومنع المصارف الدولية من قبول الذهب الإيراني كبديل من التعامل بالعملات… ما أجبر إيران على العودة إلى تجارة المقايضة (النفط مقابل الطحين مثلاً) كوسيلة وحيدة للإستمرار، تماماً كما كانت التجارة تحصل قبل آلاف السنين.
بين شهر شباط 2012 وشباط 2013، خسر الريال الإيراني 75% من قيمته؛ بينما ارتفعت أسعار مواد الإستهلاك المستوردة من المصدر بنسبة 30%؛ وانعكس ذلك على الصناعة (بسبب فقدان قطع الغيار) والخدمات… فأقفل الكثير من المؤسسات أبوابه، وارتفعت نسبة العاطلين عن العمل إلى 20% من الشعب العامل، فأصبح استقرار النظام في خطر.
“صدقوني، الشعب الإيراني بدأ ينزعج من تراجع مستوى عيشه؛ بينما هو يهزأ من مشاهدة المعامل النووية مقفلة مقفرة” كتبت الصحافية الإيرانية “كاميليا انتخابي فرد”. هذا الشعور دفع بالمسؤولين الإيرانيين لطلب العودة إلى المباحثات مع مجموعة 5+1 وتجديد التفاوض حول مشاريعها النووية؛ هنا أيقن الإيرانيون أنهم لايملكون وسائل طموحاتهم؛ وانتهت المفاوضات في حينه بفرض شروط قاسية على إيران ومشاريعها النووية، فأعادتها إلى مربعها النووي الإول المسموح به لكل دول العالم تحت غطاء الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
الضربة الثانية لمشروع الامبراطورية جاءت من الثورة السورية على الحليف الإقوى بشار الإسد الممسك بالحلقة الإهم في مشروع الامبراطورية. صحيح أن الإسد لم يسقط بعد أكثر من ثلاثة أعوام على الثورة؛ لكن الإصح أن الإسد لم يعد بإمكانه الإستمرار في حكم سوريا كرئيس للدولة، بعدما تسبب بكل تلك المآسي لسوريا. فالإستثمار بالإسد في سوريا بدعمه مالياً، بات مشروعاً خاسراً حتماً. أضف إلى ذلك اشتراك حرسها الثوري في القتال داخل سوريا وسقوط عدد كبير من عناصره وقادته. وبات واضحاً أن المصير الحتمي لحليفهم هو الرحيل عن دمشق، والنظام الذي سيلي نظام الإسد على الإقل لن يكون حليفاً لإيران، إن لم يذهب أبعد من ذلك.
في العراق تراجعت الإمبراطورية علناً، عندما أجبرت على التخلّي عن حليفها الإلصق نوري المالكي الذي قاد العراق إلى شبه كارثة بالتسبب بخلق بيئة حاضنة لـ”داعش”؛ فهرعت إلى مساندة الإقليم الكردي في حرب استباقية ضد التنظيم الإرهابي الذي وصل إلى أبواب حليفها في بغداد.
في لبنان خسر “حزب الله” (الذراع العسكري والسياسي الإقوى لسياسة إيران في المنطقة) على جبهتين: الجبهة الداخلية اللبنانية، عندما فشلت حكومته “الإنقلابية” في إدارة الشأن اللبناني الذي وصل إلى حدود الكارثة، فاستقالت هرباُ من المسؤولية وسط تعاظم الإحتجاجات اللبنانية الرافضة تدخله في الإزمة السورية؛ كما تتراكم خسائره على الجبهة السورية مع انخراطه عسكرياً إلى جانب الإسد ليسقط له مئات القتلى وليتسبب باستدراج الإرهاب و”الدواعش” كلها إلى الساحة الداخلية.
باختصار، هلال الإمبراطورية الممتد من طهران إلى الضاحية الجنوبية، تحطّم في سوريا والعراق؛ كما يستحيل جمعه في المستقبل كما هو ظاهر من اتجاه الإحداث. في مملكة البحرين تراجعت الإمبراطورية ولم تعد فاعلة في المنامة بعد دخول قوات درع الخليج إلى المملكة. في قطاع غزة حاولت إيران اخيراً استرجاع الدور بعد جفاء الربيع العربي؛ لكن نتائج الإحداث كرّست خسارتها الدور لمصلحة النظام العربي خصوصاً مصر ومنظمة التحرير الفلسطينية. وفي لبنان يهدر “حزب الله” دماء مجاهديه وأمواله النظيفة في حروب تكرّست خسارتها فوق الإرض السورية، بينما يشتد الخناق عليه داخلياً وإقليمياً ودولياً.
عميد ركن متقاعد