وقائع «صفقة التأجيل» بين السنيورة وعون
طارت «السلسلة».. فتش عن الرئاسة!
مرة أخرى، خذل المجلس النيابي ناخبيه، مستخدماً «السلسلة» لجلد حقوق الموظفين والمعلمين والأساتذة، بدلاً من إنصافهم.
مرة أخرى، سقط المجلس في اختبار المصداقية ومحاكاة نبض الناس، فانتصر لمصالح بعض مكوناته المعروفة و«السرية»، على حساب الحقوق البديهية والمكتسبة للعاملين في القطاع العام.
ما حصل أمس في الهيئة العامة كان «مريباً». فجأة، تنبه 65 نائباً الى ان مشروع سلسلة الرتب والرواتب ما يزال يحتاج الى مزيد من النقاش واللجان، برغم أنه أُشبع درساً وتشريحاً على مدى أكثر من عامين، في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي ثم في اللجان المشتركة واللجنة النيابية الفرعية، حتى بات معظم اللبنانيين خبراء في الإيرادات والنفقات.
ما حصل أمس ليس مجرد تأجيل تقني، بل هو أقرب الى موت غير معلن لـ«السلسلة»، لاسيما ان مهلة الـ15 يوماً الممنوحة للجنة الجديدة لن تغير كثيراً في وقائع مالية واقتصادية نوقشت لأكثر من 25 شهراً، علماً ان الجزء الاكبر من المهلة المفترضة سيتوزع عملياً بين عطلة عيد الفصح.. وجلسة انتخاب رئيس الجمهورية التي سيكون موعدها الأسبوع المقبل، ومن شأنها أن تخلط الكثير من الأوراق و«سلاسل» الاصطفافات.
كأنه لا يكفي هذا المجلس النيابي أنه باق على قيد الحياة بقوة التمديد القسري الذي أفقده المشروعية الشعبية، ولو ظل محتفظاً بالشرعية القانونية، فجاءت طعنة البارحة في ظهر «السلسلة»، لتحوله الى «فارٍّ من العدالة.. الاجتماعية».
وليست «هيئة التنسيق النقابية» هي الضحية فقط، بل إن المتضرر الاكبر مما جرى تحت جناح «الظلم» هو الحلم الذي راود البعض بإمكان تعديل جوهر النهج الاقتصادي ـ المالي، غير العادل، الذي ظل يتحكم بمصائر اللبنانيين منذ العام 1992.
لم تكن «السلسلة» مجرد محاولة لتصحيح خلل متراكم في القطاع العام. كانت المسمار الأول في نعش الضرائب غير المتوازنة والمحرّمات المصرفية والحصانات المضروبة على أصحاب الرساميل، وهو مسمار امتدت أصابع كثيرة نحوه، لمنع زرعه في المكان الصحيح.
ويسجل لأصحاب الرساميل أنهم ربحوا جولة، ونجحوا في استخدام تحالفاتهم العضوية مع جزء واسع من الطبقة السياسية لمحاصرة «السلسلة» وإسقاط نصابها النيابي، سواء بضغط التهويل او بتواطؤ المصالح.
ويُسجل أيضاً للرئيس فؤاد السنيورة أنه أدار جيداً «الهجوم المضاد» على مشروع «السلسلة»، وتمكّن من استعادة المبادرة وفرض إيقاع فريقه السياسي والاقتصادي على مسار هذه القضية.
وإذا كان «تيار المستقبل» بقي منسجماً مع نفسه وخياراته، فإن «المفاجأة» ـ التي شكلت «صدمة» للبعض ـ جاءت من مكان آخر، وتحديدا من «التيار الوطني الحر» الذي «انقلب» بين ليلة وضحاها على نفسه، وعلى المسار الذي سلكه في ملف «السلسلة» منذ البداية، واضعاً قواعد «هيئة التنسيق» وقيادتها أمام مجموعة من علامات الاستفهام والتعجب.
ويمكن القول إن الثمن الأكبر لهذا التحول دفعه أحد قيادات «التيار» ورئيس لجنة المال وأمين سر «تكتل التغيير والإصلاح» ابراهيم كنعان، صاحب البصمات الأبرز على مشروع السلسلة في طبعته المضخمة الأخيرة، بل إن كنعان كان الأكثر اندفاعاً داخل اللجنة الفرعية في رفد «السلسلة» بمليارات إضافية لتلبية الحقوق المعلقة لشرائح من الموظفين والمتقاعدين، حتى ان بعض النواب الحلفاء طلبوا منه التمهل والتروي في الأرقام.
ولئن كان بعض خصوم التيار البرتقالي يعتبرون أن تأييده تأجيل البت في «السلسلة» أتى متناغماً مع «خياراته الليبرالية» الاستراتيجية التي لا يمكن أن تذهب بعيداً في الخصومة مع الهيئات الاقتصادية، إلا ان الاكيد ان هاجس رئاسة الجمهورية فعل فعله في قرار العماد ميشال عون الذي يفترض أن مهادنة «تيار المستقبل» في هذه المرحلة يمكن ان تفيد في تحسين فرص انتخابه رئيساً.
رواية «الصفقة»
وكان السنيورة يرافقه النائب غازي يوسف قد التقى الرئيس نبيه بري في عين التينة الاحد الماضي، بحضور وزير المال علي حسن خليل. خلال اللقاء، أكد بري لضيفه حرصه على أن تكون السلسلة واقعية ومتوازنة، فلا تهدد خزينة الدولة والاقتصاد الوطني، ولا تعطي موظفي القطاع العام بيد وتأخذ منهم باليد الأخرى.
شرح السنيورة وجهة نظره حيال «السلسلة»، وانتقد الزيادات التي أدرجها كنعان ضمن التقرير الذي وضعه، مشدداً على ضرورة تخفيض كلفة «السلسلة» وترشيقها من جهة، وتطعيمها من جهة أخرى ببنود إصلاحية كان قد اقترحها في ورقة وضعها العام 1998.
تفهّم بري بعض طروحات السنيورة وأبدى استعداده لمناقشتها والأخذ بما أمكن منها، فيما أكد خليل انه سيأخذ كوزير للمال بأفكار إصلاحية واردة في ورقة رئيس الحكومة الأسبق. غادر السنيورة عين التينة بعد جلسة مطولة تخللها غداء، من دون ان يطرح لا من قريب ولا من بعيد فكرة تأجيل حسم «السلسلة» وتشكيل لجنة لمتابعة دراستها.
في اليوم التالي، بدأ السنيورة يُعِد لـ«صفقة» تأجيل «السلسلة»، فتواصل مع حلفائه في «14 آذار» ولاسيما الرئيس أمين الجميل و«القوات اللبنانية»، ثم شرح للوزير جبران باسيل، بالتنسيق مع الرابية، حيثيات اقتراحه. لم يخذل عون رئيس «كتلة المستقبل» وأبلغه موافقته على الاقتراح.
وبرغم ان «مشاورات الصفقة» لم تشمل النائب وليد جنبلاط، إلا ان السنيورة كان مطمئناً الى ان رئيس «الاشتراكي» لن يعارض التأجيل وهو المتخوف من تداعيات «السلسلة».
صباح أمس، شعر بري خلال وجوده في مكتبه في المجلس أن أمراً ما قد دُبر في ليل. وبالفعل، أبلغه السنيورة أن تفاهماً جرى بين العديد من الكتل على إرجاء بت «السلسلة» في انتظار المزيد من الدرس والتدقيق في نفقاتها ووارداتها. استغرب بري هذا الطرح، ولفت انتباه السنيورة الى ان الشارع « في ظهرنا» وهو يغلي وينتظر ما سيصدر عن المجلس، «وأنا لا أستطيع تحمل او تقبل المزيد من استهلاك الوقت».
واضاف بري مخاطباً السنيورة: «السلسلة» أشبعت نقاشاً وكل الارقام فيها خضعت الى التدقيق، وإذا كانت هناك ضرورة لتعديلات معينة، يمكن البحث فيها، لكن يجب حسم «السلسلة» اليوم (أمس).
أصرّ السنيورة المتفاهم مع عون على موقفه، وتمسك بري و«حزب الله» بإقرار «السلسلة» في جلسة الأمس، اما جنبلاط فتجاوب مع طرح التأجيل، بعدما اطمأن الى ردّ فعل بري. وقد ابلغ الوزير وائل ابو فاعور رئيس المجلس أن جنبلاط حريص على العلاقة به، «وهو لن يؤيد خيار التأجيل إذا كان الأمر سيسبب زعلاً بينك وبينه»، فكان الرد بأن جنبلاط يملك حرية التصرف، لان هذه هي اللعبة البرلمانية، ومهما كان قراره فلن يترك انعكاسات سلبية على العلاقة الثنائية.
أما «القوات اللبنانية» فقد كانت جاهزة لتضع بصماتها على «إخراج» التأجيل، عبر النائب جورج عدوان، عشية إعلان رئيسها سمير جعجع عن برنامجه الرئاسي، وكأن جعجع الذي لطالما قدم «القوات» على اساس أنها تعبر عن الكادحين والفقراء المسيحيين، أراد ان يمهد لهذا البرنامج بمعاداة هذه الطبقة العابرة أصلاً لكل الطوائف والمذاهب.
.. وأمام هذا «الانقلاب» على «السلسلة»، دعت «هيئة التنسيق» الى الاعتصام والإضراب الشامل اليوم في ردّ أولي، هو توطئة لانتفاضة شعبية، وفق قيادة الهيئة، فهل ينجح الشارع في التحدي الجديد، وهل لا يزال يملك النفس الطويل للمضي في المواجهة؟