تُختصر المبادَرة العونيّة بعبارة واحدة: «تغيير في النظام، مع الحفاظ على الشراكة». الزمان ليس زمانها، وردود الفعل كانت متوقّعة، إلّا أنّ التطوّرات المتسارعة قد تشكّل ظروفاً مؤاتية تُطرح فيها كأولوية على بساط البحث.
يتزامن الطرح مع متغيّرات جوهريّة تشهدها سوريا والعراق. المحوران السعودي والإيراني في الميدان، «حزب الله»، الرئيس بشّار الأسد، نوري المالكي مقابل المعارضة، «داعش» وأخواتها، وكلّ الأسلحة في أرض المعركة، وكلّ الصيغ واردة: الكونفدرالية، الفدراليّة، الكيانات المذهبيّة المغلقة المتناحرة، كلّ الاحتمالات… واتّخذت المعارك في الآونة الأخيرة هدفاً استراتيجيّاً، البحث عن الموارد واقتسام الثروة النفطيّة والتفتيش عن المردودات التي تؤمّن نوعاً من الاكتفاء الاقتصادي – المعيشي الذاتي لكلّ إقليم.
يأتي الطرح من خارج السياق، ربّما، لأنّ اللبنانيّين منشغلون هذه الأيام بـ»المونديال»، وبأخبار «داعش» وارتداداته على الساحة، وما تقوم به الأجهزة الأمنية في سباق مع الوقت لملاحقة الخلايا الناشطة والنائمة. لكنْ أن يأتي «في هذه الحشرة»، وفي هذا التوقيت، فهو حتماً ليس لهذا الزمان، وربّما يكون للزمان الآتي بعد مرور الإعصار، وانكشاف حجم المتغيّرات التي يكون قد أحدثها.
حتى الآن لم يصل اللبنانيّون إلى اقتناع جازم ونهائي بأنّ الطائف قد لفَظ أنفاسه. الإصطفافات ما بين «8 و14 آذار» لا تزال قائمة، وعلى طرفي نقيض. هناك جبهة عريضة لا تزال تعتبره ضرورة وطنيّة، فيما الجبهة المقابلة تحمّله مسؤوليّة إنحلال الدولة. لقد أوقف المعارك وأزال المتاريس، لكنّه لم يُنهِ الحرب، والأزمة لا تزال قائمة وعلى تفاقم.
إنّه الوقت المهدور الذي لم يُنتج رئيساً للجمهوريّة، ولم يساعد على لبنَنة الإستحقاق، وهذا ليس بالطارئ ولا بالمفاجئ، لأنّ الجميع في أزمة: الحوار الوطني، الدولة ومؤسّساتها، الخيارات الوطنيّة… والنتيجة تعطيل الإنتخابات الرئاسيّة.
بدأ الجنرال حواره فجأةً مع تيار «المستقبل» بلا مقدّمات. قلّة قليلة تعرف كيف بدأ، وما إذا كان قد انتهى فعلاً، أم خبا عند عتبة «أنا أو لا أحد». جوهر الحوار أنّ الرئيس (عون) والرئيس (الحريري) يحميان الطائف، وإذا تخلّى الثاني عن دعم الأوّل للوصول، يصبح الطائف هو الهدف، وحوله تدور المعارك السياسيّة، وربّما غير السياسيّة، وقد فُتِح الباب على مصراعيه. أوهَم اللبنانيين لأسابيع طويلة بحواره السرّي مع «المستقبليّين»، وها هو بطروحاته الجديدة يأخذهم مشواراً طويلاً بعيداً عن الإستحقاق، ويشغلهم بنقاش عبثيّ حول جنس الملائكة في النظام اللبناني، قبل أن يأتي مَن في مقدوره إسدال الستارة ووضع حدّ لهذه المسرحيّة المُكلِفة.
قد لا يكون الوقت مُتاحاً لنقاش هادئ، لكنّ الردّ المُجدي يمكن أن يأتي من قوى «14 آذار» بالتضامن مع الوسطييّن لانتخاب رئيس في أقرب وقت بدعم خارجي واضح، ومؤثّر على مجريات الأمور، وعلى كفّة التوازنات. أمّا الاكتفاء بالإنتقاد والتراشق الإعلامي، فهذا يخدم المخطّط الذي كشفَ الجنرال عن جدول أعماله وأولويّاته. الوضع الأمني على توتّر عالٍ، التغيير يجتاح الدول والكيانات بكِلفة عالية، غالبية اللبنانيين لا تريد أن يكون الوطن ساحة لتصفية الحسابات، لكنّ المخاوف قائمة، السقف مثقوب، الحدود مباحة، الأبواب مشرّعة، والضمانات مجرّد كلام عن «أنّ الاستقرار خطّ أحمر». فهل بعض من هو قادر على تحصين هذا الخط؟ أو بكلام أكثر وضوحاً، هل ما طرحَه الجنرال هو لهذا الزمان، أم للمستقبل الآتي؟ وهل هو لتغطية الفراغ الرئاسي بنقاشٍ حامٍ حول الطائف والصلاحيات لتمرير المرحلة، وصولاً إلى واقع جديد يُرسَم حاليّا في الغرف الإقليميّة – الدوليّة المغلقة، مع تصوّر جديد يحاكي مستقبل النظام، والصيغة، والميثاق، وموقع لبنان ودوره، ووظيفته المستقبليّة بعد أن يحطّ التغيير كامل رحاله في المنطقة؟