IMLebanon

طريــق الفدرالية

بعد تطوّرات الأسابيع الأخيرة، كثرت التكهّنات حول مستقبل العراق.

فهل هو مقبل على حلّ سياسي، أم مرشح لاستمرار العنف والانزلاق أكثر فأكثر نحو الحرب الأهلية؟ هل يستعيد وحدته ويعيد إنتاج النظام الدستوري نفسه، أم يصبح بالكامل بلدا فدراليا؟ هل يبقى موحّدا أم يتحوّل إلى دويلات؟

النظام المركزي بات صعبا في ظل استفحال الخلافات الطائفية المستعرة منذ قرابة العقد. وتقسيم العراق إلى دويلات مستقلة يستحيل من دون اعتراف دولي بالكيانات المفترضة. الاعتراف الدولي بعيد الاحتمال. رغم تلويح السيد مسعود البرزاني بأن انفصال كردستان قد نضج “وحان قطافه”، فهو، لغاية تاريخه، لم يجد داعما اقليميا أو دوليا لفكرته إلا بنيامين نتنياهو.

تطوير الفدرالية، القائمة فعليا، قد يكتسب في ضوء ذلك أنصارا ومحبّذين. قادة العشائر السنية لمّحوا مرارا إلى أن أبرز شروطهم اثنان: إزاحة نوري المالكي والحصول على امتيازات مشابهة لتلك التي يتمتع بها إقليم كردستان.

الموضوع يستحق المناقشة، خصوصا أن النموذج العراقي قد يعمّم في المنطقة، التي تتكوّن من وحدات سياسية و”مراكز” هشة تبيّن أنها قائمة على بحر من العصبيات، المغطاة بقشرة رقيقة من الشعارات المضللة.

خلافا لما هو شائع، الفدرالية تفترض في العراقيين، أحزابا وعشائر ومناطق وطوائف، تعزيز قناعتهم بوحدة بلدهم ورغبتهم بالعيش المشترك. فالفدرالية ليست نظاما لجمع كيانات متحاربة ومتباعدة ومتعادية في بلد واحد، بل هي صيغة لتوحيد مجموعات ذات انتماءات مختلفة في إطار دستوري وسياسي واحد. إنها ليست طريقة لترسيم خطوط التماس، ولا لإدارة الحروب أو لتنظيم جولات العراك. بالعكس من ذلك، فهي تسعى إلى صيانة الوحدة عن طريق فض الاشتباك وتوزيع الاختصاصات بين مختلفين، بقصد تكريس الوحدة وتلافي الطلاق.

إن عراقا فدراليا لا يبنى على الأحقاد ولا يؤسّس على الضغائن، بل يتطلب تفاهما وطنيا على المسائل الأساسية، تماما مثل أي نظام اندماجي. إنه يمثل اعترافا بالتباينات وعزما على تجاوزها بتوزيع الصلاحيات والاختصاصات بين المركز والأقاليم. لذلك فإن عنصر الوحدة في نظام فدرالي صحيح لا يقلّ شأنا عن الاعتراف بذاتية الأقاليم. الفدرالية الناجحة هي التي تقيم جيشا مركزيا قويا، وإدارة مركزية واقتصادا مركزيا.

هذا يعني أن الاتجاه إلى الفدرالية لا يعفي القوى والأحزاب (والطوائف) العراقية من واجب الحوار والاتفاق على أهمّ المسائل التي تواجه العراق، إلا إذا كانوا، تحت مسمّى الفدرالية، ينوون تقسيم بلدهم إلى كيانات تتحارب إلى الأبد.

المفروض الاتفاق على الجيش، تركيبته وقيادته ووجهة سلاحه، ودوره في الأمن الداخلي والحياة السياسية. كما يفترض، في الحالة العراقية الراهنة، توفير الاتفاق الصعب على السياسة الخارجية والدور الاقليمي للعراق، الذي بات، مثل لبنان، يختلط فيه النزاع الداخلي بالصراع الإقليمي.

ولا بدّ من التوافق على موضوع حيوي وحسّاس، وهو طريقة تقاسم عائدات النفط على الطوائف – الأقاليم – لأن الطبيعة أساءت توزيع منابع النفط بين طوائف العراق.

لا تخفى أهمّية النفط في حياة العراق والعراقيين، إذ تشكل الصناعة، وأبرز مكوّناتها انتاج النفط وملحقاته، 65% من الناتج المحلي المقدّر بحوالي 222 مليار دولار. يؤمّن النفط 80% من القطع الأجنبي وأكثر من 90% من إيرادات الحكومة، فلا حياة، بالتالي، لحكومة محلية محرومة من عائدات الذهب الأسود. العراق هو الثامن بين بلدان العالم المنتجة للنفط الخام ورابع البلدان المصدّرة له، وهو الخامس بين بلدان العالم من حيث احتياطي النفط الخام.

إلا إن هذه الثروة النفطية ليست موزعة بطريقة متساوية بين الأقاليم، بل يستأثر الجنوب الشيعي والشمال الكردي بمعظم احتياطي العراق. إن حقول البصرة وحدها، وأهمّها حقل الرميلة الشمالي ثم حقل مجنون، تختزن احتياطيا يقدّر بأكثر من 65 مليار برميل، ما يمثل 60% من الاحتياطي النفطي العراقي. وفي حقول كركوك، التي أصبحت تحت سلطة كردستان، 13 مليار برميل، أي ما يعادل 12% من الاحتياطي النفطي العراقي. ففي عراق موحّد، ولو فدرالي، لا يجوز أن تسبح مقاطعات بالنفط بينما تغرق أخرى في رمال الصحراء.

هكذا، سواء كانت الوحدة اندماجية أو فدرالية، يفرض إنقاذ العراق أن تنصرف النخب العراقية من دون إبطاء إلى البدء بمعالجة النقاط الساخنة، العديدة، في طريق استعادة العراق.