هل دخلت المنطقة زمن التسويات؟ اين ستتنازل ايران بعد ان خسرت رجلها القوي في العراق نوري المالكي؟ هل حان الوقت للتخلي عن الرئيس بشار الاسد؟ هل لبنان سيكون جزءا من هذه الصفقة؟ هل اقترب زمن التضحية بحزب الله؟ هل سيكون اول «الغيث» فرض انتخاب رئيس للجمهورية من 14آذار؟ اسئلة ساذجة طرحت في الساعات القليلة الماضية من قبل عدد لا يستهان به من قيادات 14آذار «الرفيعة» في بيروت، وانعكست ايضا في تحليلات بعض الاعلام العربي والمحلي احتفالات بانتصارات وهمية غير موجودة على ارض الواقع. فما حقيقة ما جرى وما هي احتمالات تاثيراته على الساحة اللبنانية؟
اوساط ديبلوماسية في بيروت تشير الى ان الافتراض بأن إيران خسرت او «تنازلت» لتمرير الصفقة العراقية هو امر بعيد عن الواقع بمسافات «ضوئية»، فالعبادي ليس محسوبا على الدوحة أو الرياض، او واشنطن، وبالعودة الى تاريخ هذا الرجل لا يمكن ايجاد ما يميزه عن نوري المالكي بقربه من الايرانيين. لهذا السبب لم يحاول الإيرانيون الاعتراض على ترشيحه للمنصب، وهم كانوا من اللاعبين الاساسيين في اختياره بعد ان احترقت «اوراق» المالكي ولم يعد بالامكان تسويقه داخليا او خارجيا.
وبحسب المعلومات، فان الايرانيين اتخذوا قرارهم النهائي باستبعاد المالكي بعد استمزاج موقع المرجعية الدينية في العراق، وهي ابدت رغبتها بالتغيير بعد ان اصبح بقاء المالكي عامل انقسام بين الشيعة، وتجدر الاشارة الى ان الايرانيين لم يرحبوا بالمالكي في البداية، عندما رشح للمنصب منذ ثماني سنوات لكنهم قبلوا به لأن الكتلة الشيعية دعمته في البرلمان، وعندما بدأ يفقد ثقة الأكراد والسنة ويبعدهم عن السلطة، عرفت إيران ان الاستثمار بهذا الرجل بات لعبة خاسرة، خصوصا انه تجاوز نصائحها في هذا الاطار وحاولت مرارا التاثير على قراراته ولكن دون جدوى.
وتشير تلك الاوساط، الى ان مسؤولا ايرانيا كبيرا جاء الى المالكي قبل نحو ثلاثة اسابيع وابلغه ان طهران «ليست معه وليست ضده ايضا»وقال له ان معيار بقائه في السلطة هو نجاحه في اعادة توحيد الصف الشيعي حوله، والانتقال بعدها الى اجراء مصالحة وطنية مع باقي المكونات العراقية، لكن المالكي فشل في تلك المهمة وانتقل الصراع الى داخل حزب الدعوة وبلغ «التشظي» ذروته بعد ان وصل الانقسام الى داخل الاجهزة الامنية العراقية، عندها ابلغ رئيس الحكومة العراقية ان التطورات المتسارعة لم تعد تحتمل المناورات والبحث جار عن مرشح آخر. يوم الثلاثاء الماضي خرج سكرتير مجلس الأمن القومي الأعلى في إيران علي شمخاني ليعطي اول اشارة علنية للمرحلة الجديدة عندما اعلن دعم طهران جهود بغداد لاختيار رئيس وزراء جديد، عندها فهم المالكي «الرسالة» جيدا، فالمهم بالنسبة لإيران في الوقت الحالي رؤية كتلة شيعية موحدة في العراق وتشكيل حكومة جديدة برئاسة شخصية موثوقة قريبة منها، وهذا ما حصل، «تنازل» في «الشكل» اما «المضمون» فبقي على حاله، فحيدر العبادي شخصية لا تحتمل «القسمة» ولا يمكن لاي من القوى الاقليمية او الدولية ان تدعي ان لها فيه «نصيب» والكل يعرف انه شخصية محسوبة على طهران.
وتلفت تلك الاوساط، الى ان اختيار العبادي لم يكن بالامر السهل، فالسعودية حاولت التأثير لاختيار شخصية تكون اكثر تحررا من «النفوذ» الايراني ولكنها لم تنجح، فالمفاوضات الشاقة والمريرة التي جرت بـ «الواسطة» وراء الكواليس، حسمت بتفاهم «واقعي» ايراني- اميركي بعد ان دخلت «داعش» بقوة كعامل مؤثر على الساحة العراقية، ولاول مرة يبدو ان الحوار الأميركي ـ الإيراني، تخطى البرنامج النووي إلى قضايا الإقليم بلاعبيه وأزماته. وهنا فاجأت إيران كل من توقع أنها ستعلن عن إدانة غاضبة للضربات الجوية الأميركية على مواقع «الدولة الإسلامية» شمالي العراق لكن ثمة تغيير لافت في لهجتها، وقد عبر عن ذلك مستشار وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، الاثنين الماضي، عندما قال صراحة إن إيران والولايات المتحدة يجب أن تعملا معا لمواجهة «التكفيريين» في العراق. ماذا يعني هذا الكلام؟
يعني برأي تلك الاوساط، ان الرهان على وهن ايراني سيؤدي الى تنازلات في المنطقة ليس واقعيا، فطهران لم تخسر في العراق وانما تعاملت باسلوبها «البرغماتي» المعهود في ادارة الازمات، اما توسيع نطاق التفاهمات مع واشنطن فهو مصدر قلق لخصومها في الاقليم، وليس عاملا مطمئناً لهم، خصوصا ان من اراد ان تكون «داعش» ورقة ابتزاز في وجه ايران بعد ان اصبح مقاتلوها على بعد 25 كيلومتراً فقط من الحدود الغربية الإيرانية، بدأ يكتشف انها بدأت تتحول الى ازمة عالمية تهدد مصالح الجميع دون استثناء، وهذا يضع طهران على «الطاولة» بعد محاولة اقصائها.
وانطلاقا من هذه المعطيات تضيف الاوساط من الاخطاء الاستراتيجية المرتكبة من قبل البعض، هو قياس ما حصل في العراق على ما يجري في سوريا ولبنان، ومن يتوهم ان الرئيس السوري سيخرج من المشهد السياسي السوري، من ذات البوابة التي خرج منها المالكي من المشهد العراقي، سيكتشف ان ما حصل في العراق سيقوي موقف النظام في دمشق، ولن يضعفه، فتوحد الجهود ضد «الدولة الاسلامية» بحكومة عراقية جديدة، سينعكس ايجابا على الموقف الامني والسياسي في دمشق، كما ان مصير الاسد لم يعد قابلا للنقاش في طهران، وقد حسمت هذه المسألة عندما اجريت الانتخابات الرئاسية السورية، فالرئيس الاسد يشكل مصدر قوة رئيسية للخيارات الايرانية ولم يتحول يوما الى عبء على طهران، بل شكل بشخصه في كثير من الاحيان ضمانة لكثير من شرائح الطائفة السنية في البلاد، يضاف الى ذلك ان واشنطن لم تطرح جديا على الايرانيين اي بدائل للاسد وبقي كلام المسؤول الاميركي «اعلاميا» دون ان يكون جزءا من اي مفاوضات. اما الرغبات السعودية والتركية والقطرية بتغيير الاسد فليس من المتوقع ان تلقى اي «آذان» صاغية في طهران، فالوقائع على الارض لا تسمح لتلك الدول بفرض شروطها، خصوصا ان ثمة اقتناعاً لدى المستويين السياسي والعسكري في ايران بان الانتصار في سوريا قد تحقق وتظهيره يحتاج فقط الى مزيد من الوقت. وهذا يعني ان الحرب على سوريا ستستمر في المدى المنظور في ظل رغبة خصوم محور المقاومة في تعديل موازين القوى.
اما الساحة اللبنانية فهي الاقرب الى حصول «التسويات» في ظل رغبة الأطراف الإقليمية والدولية في استمرار فعالية شبكة الأمان الموجودة راهنا ، لكن هذا الامر يتوقف برأي الاوساط الديبلوماسية نفسها، على مسألتين رئيسيتين الاولى قيام واشنطن بالضغط على الرياض «للتواضع» في مقاربة الازمة اللبنانية، والمسألة الثانية تكمن في وجود رغبة سعودية في التقدم خطوة باتجاه اخراج البلد من «عنق الزجاجة»، ومنع انزلاقه إلى أتون الأزمتين السورية والعراقية. الرئيس الاسبق للحكومة سعد الحريري عاد الى جدة وهناك استمع الى ما في جعبة المسؤولين السعوديين من قرارات بعد «الانفراج» الذي حصل في العراق، فاذا حمل معه «رؤية» واقعية بعيدة عن «احلام اليقظة» التي تشير الى ان رئيس لبنان المقبل ان لم يكن من فريق 14 آذار، فانه سيكون من أقرب المقربين إليه، فهذا سيفتح «باب» النقاش الجدي امام التسويات، لكن اذا كانت الرياض تصدق أن إيران وحلفاءها قد هُزموا، وانه آن الاوان لقطف ثمار هزيمتها قد حان، فان هذا سيزيد الامور تعقيدا، ولن يجد لبنان طريقه الى الخلاص، وسيبقى «الشلل» سمة المرحلة المقبلة. هل يحمل الحريري معه «كلمة السر». «الكرة» في «ملعب» السعودية، محور المقاومة ليس في «زمن التنازلات» والمقايضة بين لبنان وملفات اخرى ليست واردة، اما الحديث عن بدء «افول» «نجم» حزب الله والمساومة على «رأسه» فهو امر مثير للسخرية، ومن لديه اي شكوك، ما عليه الا الاستماع الى ما يقوله الاسرائيليون في هذا الصدد.