تحدّى «أبو بكر البغدادي» العالم. خرج أمير «دولة الخلافة»، للمرة الأولى، أمام الملأ. لم يعبأ بأجهزة الاستخبارات الدولية التي رصدت مكافأة مالية باهظة مقابل رأسه. بكل هدوء وثقة، اعتلى المنبر كـ«حاكمٍ بأمر الله» موجّهاً خطابه إلى العالم أجمع
في السنة الحادية عشرة للهجرة النبوية، بويع الصحابي أبو بكر الصدّيق أوّل الخلفاء الراشدين. وبعد ١٤٢٤ عاماً، شاءت الصُّدف أن يكون «أبو بكر البغدادي» أوّل الخلفاء الداعشيين. لم يُغفل أمير «الدولة الإسلامية» هذا التفصيل.
عاد مئات السنين إلى الوراء ليسترجع بعضاً من خطبة أول الخلفاء المسلمين قائلاً: «وُلّيت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم». كلمات الصدّيق نفسها، أعادها «الخليفة إبراهيم البدري» على مسامع المصلين من على منبر «الجامع الكبير» في مدينة الموصل خلال إلقائه خطبتي صلاة الجمعة. ظهور البغدادي الذي كان منتظراً للرد على المنتقدين المتسائلين: «كيف تبايع مجهولاً؟»، أحدث صدمة وفتح الباب أمام تحليل رسائل عدة ضمّنها في خطبته وخروجه العلني للمرّة الأولى. هوية الرجل جاءت مطابقة للصورة التي عممتها وزارة الداخلية العراقية بداية العام الجاري، لأن الأخير كان موقوفاً في سجونها. ورغم ذلك، ولسببٍ غير مفهوم، خرجت الداخلية العراقية، لتزعم أن «الخطيب الذي ادّعى أنه البغدادي ليس البغدادي»، واصفة التسجيل بـ«المزيّف». وبررت إعلانها بأن «القوات الجوية العراقية أصابت البغدادي أخيراً، حيث نُقل إلى سوريا للعلاج»، علماً أن «مؤسسة الاعتصام» الناطقة باسم التنظيم كانت قد نشرت التسجيل المصوّر على موقعها.
وبالعودة إلى حدث إزالة البغدادي اللثام عن وجهه. فقد تدثر الرجل بالأسود، مرخياً ذؤابتين على كتفيه. صعد المنبر ببطء، كأنما يعاني خللاً في مشيته إثر إصابة ما، علماً بأن صعود السلم بهذه الطريقة يعد عند بعض أئمة المساجد من «آداب اعتلاء المنبر». لم يكترث لأحاديث تتردد عن النبي محمد بأن «السواد لباس أهل النار». هذه الانتقادات ردّ عليها أتباعه بأن أميرهم «إنما يقتدي بالنبي الذي اعتمر عمامة سوداء وأرخى ذؤابتيها يوم فتح مكّة»، كذلك عرف عن الخلفاء العباسيين لبسهم الأسود. وقبل أن يبدأ البغدادي خطبته، سلّم على الناس ثم جلس «يتَمَسوَك» (تنظيف الأسنان بالمسواك وهو من السُّنّة)، ليفتتح بعدها خطبته بآيات قرآنية عن فضل شهر رمضان. تلك كانت الرسالة الأولى لتقطع الطريق على التشكيك بتوقيت التسجيل، باعتبار أنه لم يكن قد مضى سوى ستة أيام على حلول شهر رمضان.
المقدسي والقرضاوي ينتقدان إعلان
الخلافة: يفتقد لأي معايير شرعية
انتقل بعدها البغدادي إلى الحدث العام، أي إعلان الخلافة. انطلق من مقولة «إن الغاية التي خُلقنا من أجلها هي تحكيم شرع الله»، ثم أردف قائلاً: «قوام الدين: كتاب يهدي، وسيف ينصر، وإن إخوانكم المجاهدين قد منّ الله تبارك وتعالى عليهم بنصر وفتح، ومكّن لهم بعد سنين طويلة من الجهاد والصبر، فسارعوا إلى إعلان الخلافة وتنصيب إمام، وهذا واجب على المسلمين، واجب قد ضُيّع لقرون، وغاب عن واقع الأرض، فجهله كثير مِن المسلمين، وها هم قد أقاموه ولله الحمد والمنّة، ولقد ابتُلِيتُ بهذا الأمر العظيم، لقد ابتُلِيتُ بهذه الأمانة؛ أمانة ثقيلة». وبدى لافتاً في خطبة البغدادي قوله: «إني لا أعدكم كما يعد الملوك والحكام أتباعهم ورعيّتهم؛ مِن رفاهية ودعَة وأمْن ورخاء، وإنما أعدكم بما وعد الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين؛ (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ). وعد البغدادي أتباعه بـ«الخلافة على كل الأرض». هكذا، في عُرف أتباع هذا المنهج، ستلي الجهاد والتمكين، فتوحات داعشية في مشارق الأرض ومغاربها. وقد خطب البغدادي خطبتين، سياسية ودينية لم يتعد وقتهما عشرين دقيقة، وواكبه العديد من الحرّاس الذين توزّعوا بأعداد كبيرة بين المصلّين من دون سلاح ظاهر.
وفي مقابل صعود نجم البغدادي ودولته، توالت ردود الفعل المستنكرة لإعلان «الخلافة الإسلامية». وقد برز لافتاً موقف الشيخ أبو محمد المقدسي، أستاذ مؤسس «دولة العراق الإسلامية» أبو مصعب الزرقاوي وملهمه. فالمقدسي بعد أسابيع على خروجه من السجون الأردنية، ظهر في كلمة مصوّرة يرد فيها على المتحدث باسم «الدولة الإسلامية» أبو محمد العدناني وعلى شرعية إعلان الخلافة. وهو كان قد بذل جهوداً للصلح والتحكيم بين «النصرة» و«الدولة» رفضتها الأخيرة، ما دفعه إلى إصدار بيانه الشهير الذي شنّ فيه حملة من داخل سجنه «على من رفض النزول على حكم الله». وبعدما انتقد المقدسي «نهج السباب وقلة الأدب وسوء الظن والافتقار إلى أدب الحوار والتحريض على سفك الدماء المعصومة» لدى الناطقين الإعلاميين والشرعيين لدى الطرفين المتنازعين، رد على سؤال عن رأيه في «انتصارات تنظيم الدولة في العراق»، فقال: «لا يوجد مؤمن لا يفرح بانتصارات مسلمين مهما كان حالهم ووصفهم على روافض ومرتدين؛ وإنما الخوف على مآلات هذه الانتصارات وكيف سيعامل أهل السنة والجماعات الأخرى الدعوية أو المجاهدة وعموم المسلمين في المناطق المحررة؟ وضد من ستستخدم الأسلحة الثقيلة التي غنمت من العراق وأرسلت إلى سوريا؟ هذا هو سؤالي وهمّي؟ ونتخوف من الإجابات عليه على أرض الواقع لأننا لا نثق بالعقليات التي تمسك بذلك السلاح لأسباب كثيرة». أما بشأن موقفه من إعلان «الخلافة الإسلامية»، فقال المقدسي: «المكتوب يُقرأ من عنوانه». ثم سأل: «ماذا سيرتب القوم على هذا الإعلان والمسمى الذي طوروه من تنظيم إلى دولة عراق ثم إلى دولة عراق وشام ثم إلى خلافة عامة؟ هل ستكون هذه الخلافة ملاذاً لكل مستضعف وملجأ لكل مسلم، أم سيتخذ هذا المسمى سيفاً مصلتاً على مخالفيهم من المسلمين؛ ولتشطب به جميع الإمارات التي سبقت دولتهم المعلنة؟ وما هو مصير دمائهم عند من تُسمى بمسمى الخلافة اليوم ولم تكف بعد عن توعد مخالفيها من المسلمين بفلق هاماتهم بالرصاص؟». وختم المقدسي موجّهاً تحذيره إلى «الوالغين في دماء المسلمين كائناً من كانوا: لا تظنوا أنكم بأصواتكم العالية ستسكتون صوت الحق، أو أنكم بتهديدكم وزعيقكم وقلة أدبكم وعدوانكم ستخرسون شهاداتنا بالحق. لا وألف لا. فسنبقى حرساً مخلصين لهذا الدين؛ وحماة ساهرين على حراسة هذه الملة نذب عنها تحريف المحرفين وانتحال المبطلين وتشويه الغلاة والمتعنتين وغيرهم من المشوهين».
وفي سياق كلمة المقدسي، جاء موقف «الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين» الذي اعتبر أن «إعلان الخلافة الإسلامية من قبل تنظيم الدولة بالعراق يفتقد لأي معايير شرعية وواقعية»، معتبراً أن «ضررها أكثر من نفعها». ورأى أن «إعلان تنظيم ما يسمى الدولة الإسلامية ما سمَّوه الخلافة الإسلامية ما هو إلا افتقار إلى فقه الواقع وأشبه بالانقضاض على ثورة الشعب التي يشارك فيها أهل السنة بكل قواهم، من العشائر والفصائل المتنوعة من مناطق عديدة بالعراق، ثم يخرج تنظيم واحد وبشكل فردي، ليعلن عن خلافة إسلامية، وينصب من بين أتباعه خليفة، في غياب شبه كامل للأمة الإسلامية، وأهل الحل والعقد وأولي الأمر بها، من العلماء والفقهاء، والأكفاء والمتخصصين، وكافة فصائل الأمة». واعتبروا أن «ربط مفهوم الخلافة الإسلامية بتنظيم بعينه اشتهر بين الناس بالتشدد، والصورة الذهنية عنه سلبية حتى بين أبناء الأمة الإسلامية أنفسهم، لا يخدم المشروع الإسلامي أبداً».
ساعة الخليفة
انشغلت وسائل الإعلام العالمية والمحلية في محاولة تحديد نوع «الساعة الفخمة» التي كانت في يد «الخليفة» أبو بكر البغدادي خلال خطبته في «الجامع الكبير» في الموصل. وقد ذهبت صحيفة «الدايلي تلغراف» البريطانية إلى أن «الساعة التي وضعها البغدادي في يده كانت تبرق مما أثار الجدل حولها بين أتباعه». ورجّحت أن تكون من نوع «رولكس» أو «Omega seamaste» التي يبلغ ثمنها نحو ٣٥٠٠ يورو. وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، بدأت التكهّنات حول نوعية الساعة التي يرتديها البغدادي. وانتشرت تغريدات بين منتقد لارتدائه «ساعة باهظة الثمن» ومرحّب بـ «الخليفة المودرن».