مقابل الانتقادات الموجهة إلى العملية الانتخابية التي أفضت إلى فوز المشير عبد الفتاح السيسي بالرئاسة، يميز مصريون كثر بين العملية وشخص الرئيس والظروف السائدة اليوم وبين «الدولة» المصرية التي ينبغي الدفاع عنها والحفاظ عليها بكل الأثمان.
يقول المدافعون إن «الدولة» المصرية كيان سياسي راسخ وناظم للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية في الداخل وبينه وبين العالم الخارجي وإن الخطر الأكبر الذي مثله حكم «الإخوان المسلمين» تجسد في محاولتهم الاستيلاء على الدولة وتغيير وظائفها ومهماتها التي لا يمكن للمصريين أن يعيشوا من دونها. يضيفون إن خطر عودة حكم الفرد وما يرافقه من سيطرة الفئات التي ازدهرت خصوصاً في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، يتضاءل مقارنة بالكارثة الماحقة التي كانت ستنزل بالمصريين فيما لو نجح «الإخوان» في السيطرة على الدولة ومفاصلها والتحكم بها.
هذا التصور الذي يتبناه قسم من المصريين جدير أن يطرح بقوة أسئلة «الدولة» (مع أل التعريف) في العالم العربي. والحال أن المؤسسة هذه التي تجري دراستها والتفكير في تطورها منذ مئات الأعوام، ما زالت موضوعاً صنمياً غير قابل للنقد في العالم العربي، وما زالت تصورات سائدة تراوح بين الفكرة الخلدونية عن دولة العصبية والغلبة وبين أراء الماوردي في «الأحكام السلطانية» عن مهمات ووظائف الأمير المسلم في الذود عن البيضة. القراءات الحديثة لمآلات ومصائر الدولة العربية، على الأهمية النظرية الكبيرة لبعضها، ظلت نقداً نخبوياً «برانياً» فاقداً للقدرة على التأثير في السياسات وعقلنتها وفي دفعها إلى أداء مهمتها الأولى كتعبير عن مصالح الأكثرية المجتمعية.
بهذا المعنى، يخرج الدفاع عن الدولة من حيز النظر في انحيازاتها وأي المصالح والفئات تخدم ليصبح عبادة لها على الطريقة التي نرى ملامح لها في بعض الأفكار التي راجت في حقبة الامبراطورية الرومانية أو في توجهات الفيلسوف الصيني كونفوشيوس. ما يتوهم أصحاب تلك الآراء أنه القيمة الحقيقية للدولة هو البقاء كناظم لدورة أزلية سرمدية ينبغي أن يمر بها كل المواطنين (الرعايا، بالأحرى) وككيان متعال عن المجتمع وخارجه وفي منأى عن قوانين التغير والتبدل ومجريات الصراعات الاجتماعية مهما بلغت هذه من ضراوة وعنف.
أما محاولات تغيير النظام، فمقبولة -وفق هذا المنطق- شرط ألا تمس «الدولة» التي تتألف من بيروقراطية تمسك أجهزة الإدارة والقضاء والعنف. وليس نادراً أن تبتعد دولة هذه صفاتها عن التفاعل مع المجتمع الذي تسيره وتتحول المناصب الحكومية إلى «مهنة عائلية» على النحو الذي يشكو منه كثير من المصريين في ما يتعلق بجهازهم القضائي، على سبيل المثال لا الحصر.
غني عن البيان أن التصور المذكور الحامل الدولة إلى مستوى التبجيل والتنزيه عن النقد وإعمال النظر والعقل، ثم العبادة، يتجاهل تعريفاتها بصفتها أداة للسيطرة الاجتماعية في يد الفئات القابضة على الثروة والموارد والمكانة. والأسوأ أنه يتجاهل الآليات العميقة التي تحرك المجتمعات وتجعل كل ركود واستنقاع صنواً للموت، وهو ما اقتربت منه الدولة المصرية في عهد مبارك وأنقذتها في لحظاتها الأخيرة ثورة 25 يناير.
عليه، يمكن رؤية المسألة من زاوية معاكسة لتلك التي يرى منها أنصار عبادة الدولة. بكلمات ثانية، أن الثورة المصرية أنقذت الدولة عن طريق محاولة القضاء على موبقات الاستئثار والإقصاء وتهميش المواطن والقضاء على حقه في التطور والتغيير المتلائم مع آماله وطموحاته. عبادة الدولة ليست أكثر من تبرير سطحي لاستئناف الاستبداد بأدوات جديدة.