IMLebanon

عجز الداخل يضع الرئاسة اللبنانية في قبضة الخارج

يمكننا مقاربة مجريات الانتخابات الرئاسية من جوانب عدة. في الجانب الأول، منظوراً اليه من الداخل، تتنطح للرئاسة مجموعة مرشحين من كلا الاصطفافين الرئيسين في البلد. جميعهم من نتاج الحرب الأهلية فكراً وممارسة، لا يمكن اعتبار اي واحد منهم تمثيلاً لمصلحة لبنانية جامعة، او لتوافق يتيح فتح قنوات بين المكونات الأهلية في البلد بما يسمح من الخروج من الدوامة التي يعيش فيها. الأربعة المرشحون، اثنان من كل فريق، يرمز كل واحد منهم الى غلبة سياسية وأهلية، بحيث يعني مجيء اي واحد منهم بمثابة إعلان متجدد للحرب الأهلية في البلد. لا يمكن اعتبار الاصطفاف الراهن والتمترس عند المرشحين الاربعة، غير الوفاقيين، سوى العجز عن امكان إنتاج رئيس لبناني بوصفة لبنانية. فالتوافق المطلوب يستحيل ان يرسو على اي واحد منهم، والتوافق هذا يتطلب قبول الطرفين الرئيسين بمرشح محدد، يرفض كل طرف سلفاً القبول بأي واحد من الطرف الآخر، ويترجم الرفض بتعطيل النصاب القانوني المطلوب، وهي لعبة يملكها كل طرف وتسمح له بعدم حصول الانتخاب. ما جرى حتى الآن يثبت عجز قوى الداخل عن الوصول الى مرشح توافقي يفتح المجال امام حوار حقيقي، مما يعني ان الفراغ هو السمة الرئيسة للمرحلة المقبلة. هذا يفتح الموضوع على الخارج ودوره.

لم تكن القرارات المصيرية يوماً بيد قوى الداخل وحدها، وهو أمر معروف منذ الاستقلال اللبناني، حيث تلعب القوى الخارجية دوراً أساسياً في تقرير المصير خصوصاً الرئاسي منه. لكن دور الخارج كان ينجدل دوماً بموقع للداخل لم يكن من دون تأثير. لعقود خلت، تراجع دور الداخل لمصلحة دور متنامٍ للخارج، بل بات هذا الخارج داخلاً بامتياز. تدرج الخارج بالهيمنة انطلاقاً من الوصاية السورية التي تسلطت على البلد بموافقة دولية وإقليمية. وبعد القرار بإنهاء هذه الوصاية رسمياً في العام 2005، وقع البلد في قبضة مشروعين اقليميين، تصارعا، ولا يزالان، على موقع الحصة الاكبر من النفوذ في البلد. هذان المشروعان الإقليميان يتمثلان في كل طرف من الاستقطابات السائدة، اي ما يعرف بـ 8 آذار و14 آذار. في المعركة الرئاسية الحالية، يرى الطرف الإقليمي الممثل لقوى الثامن من آذار ان حصة مركزية لا بد من ان تكون له في تقرير مصير الرئاسة، وأنه بقواه الداخلية لن يسمح بتكرار التجارب السابقة، مما يعني الإصرار على رئيس يرمز الى غلبة اهلية. في المقابل، يصر الممثل الاقليمي للرابع عشر من آذار على منع الطرف الآخر من اخذ حصة وازنة في الرئاسة، ويصر على رئيس اقرب اليه، اي على رئيس غلبة ايضاً. وبما ان التباعد بين الموقفين لا يزال سيد الموقف، اضافة الى عدم توافق المرجعية الدولية لكلا الطرفين لم تتوافر بعد، فإن الوصول الى رئاسة يبدو بعيد المنال.

يبقى ما يعرف ببيت القصيد في هذه المعركة. منذ فترة غير بعيدة يعلن «حزب الله» الممثل المركزي للمشروع الإقليمي الايراني السوري، عن رفضه للمعادلة الطائفية السائدة منذ اتفاق الطائف الذي وضع حداً للحرب الاهلية. يطالب الحزب بتعديل الميثاق ووضع صيغة جديدة تعكس موقع الشيعية السياسية المتنامي والمستند الى قوة مسلحة باتت وظيفتها تهديد الداخل وعون النظام السوري عسكرياً. يصر الحزب على مشروع عنوانه الفراغ الى ان يتحقق هذا الهدف الذي يرى ان فرصة انتخاب رئيس هي الوحيدة التي ستتيح له تحقيق هذا التعديل في الصيغة. من الطبيعي ان تتصاعد الهواجس من طروحات «حزب الله» بالنظر الى الأخطار التي ستنجم عن الدخول عملياً في تعديل الصيغة. من المفيد التذكير هنا بأن كل طرح لتعديل الميثاق كان يترافق مع شعور طائفة اساسية بأن موقعها في السلطة لم يعد يتناسب مع موقعها الحقيقي في المعادلة. لكن كل تعديل كان يتطلب حرباً أهلية لإنجازه، بالنظر الى عجز الطوائف عن الوصول الى تسويات متجددة تسمح بتوافق على الحصص. هكذا قامت الحرب الأهلية في 1958، والحرب الاهلية التي اندلعت في السبعينات من القرن الماضي وأنتجت تعديلاً في الميثاق نتج منه اتفاق الطائف عام 1989، وبعدها كانت الحرب الاهلية (المصغرة) في 7 ايار (مايو) 2008، وأنتجت اتفاق الدوحة. فهل يتكرر هذا السيناريو؟

يصعب التكهّن بالمدى الزمني الذي سيستقر عليه الفراغ. لكن القلق حقيقي هو ان يؤدي هذا الفراغ الى إطاحة السلم الأهلي الهش في الأصل. في غياب التوافق الإقليمي والدولي على الحل الداخلي تبدو كل الاحتمالات السيئة قابلة للترجمة على الأرض.