لا نفاجأ أن تتحول مأساة غزة جزءاً من لعبة الكبار ويتمادى العدوان الهائل دون عمل فعّال لوقفه حتى من الذين يدّعون وصلاً بغزة وأطراف المقاومة فيها. هناك تواطؤ ضمني ومنافسة مكشوفة لفرض الانحياز على غزة بين الثلاثي المصري التركي الإيراني وهي محكومة جغرافياً بمصر. لكن المسألة أبعد من اللحظة السياسية الراهنة حيث ستنجلي المواجهة عن واقع في غزة يضعها ربما لسنوات طويلة خارج القدرة على المبادرة. فهل يكون العدوان الإسرائيلي وخلفه الموقف الأميركي تمهيداً لصوغ تسوية أو فرض حل على الشعب الفلسطيني من بين احتمالاته تكريس المعادلة الراهنة على الأرض وتدعيمها بتوافقات إقليمية؟ فحين تتحول المسألة إلى مطلب “حماية وجود الشعب الفلسطيني” نكون قد ابتعدنا كثيراً عن تسوية الدولتين، ومع ذلك لا يلقى هذا المطلب استجابة من مجتمع دولي يخضع للرؤية الإسرائيلية.
فهل هذا هو الحل “التصفوي” أم انه الخطوة الضرورية لإعادة ربط المسار الفلسطيني بما سيحصل لدول وكيانات المنطقة وجغرافيتها السياسية؟ أليست المعطيات الحاصلة على الأرض تشير إلى حل إسرائيلي يعيد إلحاق ما يبقى من الضفة بالأردن، وقطاع غزة بمصر وان ذلك يصير مع الوقت أمراً واقعاً عبر إضعاف مقوّمات الاستقلال الفلسطيني وذهاب الأوضاع العربية لا سيما المحيطة بفلسطين إلى حال التفكك والاهتراء؟
ولطالما أصبحت دول جوار فلسطين في حال البحث عن وحدتها وشرعية وجودها جراء نزاعاتها الداخلية، فإن شعب فلسطين يمكن أن يتحوّل إلى غرفة الانتظار لسنوات طويلة ريثما تنجلي الصورة الإقليمية.
على أي حال، قبل اندلاع المشكلات العربية الداخلية، تعرضت غزة إلى عدوان مماثل ولم يكن المحيط أكثر فاعلية أو حضوراً في لجم العدوان. فلطالما دخل النظام العربي منذ زمن بعيد تحت مظلة الهيمنة الأميركية وما بقي فيه من مشاكسين يتجمعون الآن في جبهة واحدة مع ما يسمى “الحرب على الإرهاب” من دون أن يلحظوا أن “إرهاب الدولة” الذي مارسته إسرائيل وأميركا في الحروب هو أحد الأسباب الرئيسية لتلك الظاهرة “الجهادية” غير العاقلة أصلاً والمنبعثة عن شعور بفيض الكأس من مظالم العالم والرغبة في تدميره.
فلسطين لا تطلب الآن الكثير من العرب، تريد موقفاً سياسياً من العدوان وأن يسهم العرب في رفع الحصار عنها لا أن يكونوا جزءاً منه. فلسطين ليست قضية تعالج بديبلوماسية صامتة وبمبادرات خرساء ولا بهذا المستوى من الخضوع والانتظار لعطف دولي من هنا أو هناك. إن جزءاً من التشدد الإسرائيلي والانفلات من أية ضوابط للعدوان، والقتل والتدمير المنهجيين، يعود إلى هذا الخنوع إن لم يكن التواطؤ العربي.
أن يخرج نتنياهو معلناً أن العالم معه في هذه الحرب وأن يأخذ وقته في هذه المهمة الإجرامية القذرة، هذا يعني فعلاً أن القيادات العربية لم تتخلّ فقط عن مصالحها الوطنية ومصالح شعوبها، بل فقدت الانتماء إلى الثقافة الإنسانية. لا يمكن تبرير أي موقف سياسي لا يأخذ بالاعتبار المأساة الإنسانية في غزة المحاصرة التي تفتقد إلى الغذاء والدواء والماء والكهرباء. هذا العقاب الجماعي الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني وخاصة في غزة يراكم خيارات من العنف لن تساعد أبداً على إنتاج حلول سياسية في الحاضر والمستقبل.
إن مسار القضية الفلسطينية يدل على ذلك حيث تلازمت إخفاقاتها مع ظهور الحركات السياسية الأكثر جذرية وتطرفاً ومنها واقع غزة. الأمر محسوم بالنسبة لإسرائيل والغرب حجم الكراهية والحقد العربيين سواء حملته البيانات السياسية أم شهادات عائلات الضحايا. لكن أن يشعر معظم الشعوب العربية بهذا التخلي عنهم من دولهم وأنظمتهم وقياداتهم وأن يكون مطلب “هذه الواجهة السياسية” رضا أميركا والغرب وعدم مواجهة إسرائيل فإن هؤلاء “الغرباء” في أرضهم وأوطانهم ليسوا مادة ثورات فقط بل العنف الذي تزعم واجهات العرب السياسية أنه مستورد.
على أي حال لا بد من معالجة الوضع الإنساني لغزة الآن ولا شك أن المقاومة هي الطرف المعني بهذه الأولوية في أي تفاوض. لكن فليتذكر المجتمع السياسي العربي أن العدوان على غزة ليس مجرد عملية تأديبية أو عقابية من زاوية إسرائيل لجهة سياسية بعينها، بل هي عملية سياسية أولية لفرض حلول تصفوية تلقي بثقل القضية الفلسطينية على العرب مجدداً.