أفضت المواجهة الشرسة التي خاضها الجيش مع مسلحي “جبهة النصرة” و”داعش” منذ السبت الماضي في يومها السادس امس الى إخلاء المسلحين بلدة عرسال ولكن مع نشوء أزمة أسرى لا يزال مصيرهم مهدداً بفعل احتجازهم على أيدي التنظيمين في الاماكن التي انسحبوا اليها خارج عرسال، مشترطين تنفيذ طلبات معينة، مما يعني ان الهدنة التي واكبت انسحابهم ستبقى غامضة وهشة في انتظار جلاء مصير الاسرى العسكريين والامنيين. ولعل المفاجأة التي برزت في هذا السياق بيّنت ان عدد الاسرى فاق ما كان متداولا، اذ كشفت مصادر عسكرية مساء امس ان 22 عسكرياً و17 من أفراد قوى الامن الداخلي هم في عداد الاسرى لدى “جبهة النصرة” و”داعش”، علماً ان قائد الجيش العماد جان قهوجي كان أكد قبيل حضوره جلسة مجلس الوزراء امس ان الاسرى كانوا أصلا خارج عرسال، مما يعني ان المسلحين نقلوهم الى خارج مسرح العمليات منذ تمكنهم من أسرهم. أما الاسرى السبعة الذين حررهم الجيش فجر امس، فتبين انهم كانوا مختبئين في عرسال وتمكنوا فجرا من الاتصال بوحدات الجيش التي أحكمت الحصار على البلدة فتمت عملية سريعة قامت بها وحدة من الفوج المجوقل وتمكنت من اخراجهم من البلدة.
وفيما أسفرت المواجهة عن مشهد كارثي في عرسال التي بدت في نكبة حقيقية، أفاد مراسل “النهار” في بعلبك وسام اسماعيل، بعد دخوله امس البلدة، ان المسلحين انسحبوا الى منطقة تبعد أقل من كيلومترين عن الحدود اللبنانية – السورية وعادوا الى تحصيناتهم في الجرود ليراقبوا تطبيق وقف النار وعدم التعرض للنازحين السوريين بعد انسحابهم. وعلم انهم تعهدوا للهيئة الوسيطة وضع مغلف مقفل لاحقا داخل البلدة يشير الى مكان الاسرى العسكريين، لكن الهيئة تحدثت عن انقطاع الاتصال معهم بعد انسحابهم. وأعلنت “جبهة النصرة” مساء عبر موقع “تويتر” ان مسلحيها خرجوا من عرسال “بعدما حصلنا على تعهد لعدم المساس بأهلها وسلمنا 6 اسرى كمبادرة حسن نية وبقية الاسرى وضعهم خاص سوف نبيّنه لاحقاً”.
وشهدت البلدة ومحيطها امس أوسع عمليات لنقل الجرحى والمصابين واجلاء ألوف من أبناء البلدة والنازحين وادخال قوافل المؤن والمساعدات في اشراف الجيش الذي تدخل في كل الاتجاهات لتسهيل هذه العمليات. وحصل تطور لافت تمثل في تنظيم عملية خروج نحو 1700 نازح سوري في اتجاه نقطة المصنع على ان يعودوا الى سوريا، الا ان هذه العملية أخفقت ليلا وعاد موكب النازحين أدراجه، اذ رفضت السلطات السورية عودتهم الى الداخل السوري. وأفادت مراسلة “النهار” في زحلة ان رئيسة دير مار يعقوب في بلدة قارة الأم أغنيس مريم الصليب نفت ان تكون هي التي نسقت مع السلطات السورية موضوع عودتهم. وقالت إن “التعليمات جاءت بأن تنسق الدولة اللبنانية مع السفارة السورية” دخولهم الى سوريا. وانتشرت تجمعات اللاجئين بعد رفض دخولهم سوريا ليلا على الطريق الدولية مكدسة في وسائل النقل وسط ظروف مأسوية.
وعلمت “النهار” ان رئيس مجلس الوزراء تمّام سلام كان في الايام الاخيرة متابعا لحظة بلحظة أوضاع عرسال بالتواصل المستمر مع الوزراء المعنيين والقادة الامنيين، فضلا عن متابعة شؤون الاغاثة مع الهيئة العليا للاغاثة وشؤون الاسعاف، وخصوصا مع اللجنة الدولية للصليب الاحمر التي تكفّلت امس معالجة 44 جريحا أخرجوا من عرسال وهم 43 سورياً ولبناني واحد. وفي الوقت نفسه واكب الرئيس سلام مهمة “هيئة العلماء المسلمين” في اتصال دائم معها وكذلك مع فاعليات عرسال بالتزامن مع الاتصالات الخارجية التي أجراها مع العاهل الاردني الملك عبدالله الثاني بن الحسين وأمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني ورئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان. وأبلغت أوساط الرئيس سلام “النهار” ان الجهد منصب حاليا على التنسيق مع قيادة الجيش للتأكد من خلو عرسال من المسلحين وكيفية دخول القوات الشرعية اياها والعمل على تحصين عرسال من خلال تسييجها أمنياً باعتبار ان الامساك بالجرود ليس أمراً يسيراً.
مجلس الوزراء
الى ذلك، علمت “النهار” ان ما أقرّه مجلس الوزراء امس في شأن تطويع 12 الف عنصر في الجيش وقوى الامن هو استمرار لقرار سابق اتخذه مجلس الوزراء أيام الرئيس ميشال سليمان، والجديد حاليا هو الشروع في تنفيذ القرار من طريق ايجاد مصادر التمويل، فكان ان تقرر ان يشمل التطويع في المرحلة المقبلة ستة آلاف عنصر وضابط وذلك تدريجاً بالتزامن مع توفير المبالغ اللازمة. وجاء هذا القرار في سياق العرض الميداني الذي قدمه وزير الداخلية نهاد المشنوق، وقد حصل على موافقة اجماعية من مجلس الوزراء.
ووصفت مصادر وزارية العرض الذي قدمه قائد الجيش عن الوضع الميداني في عرسال بأنه كان مشجعاً ويدل على ان الجيش ممسك بالارض مع حرصه على سلامة المدنيين، الامر الذي يجعله يتريث في حسم الوضع عسكرياً، وهو في المرحلة الراهنة يحاصر عرسال، وهذا ما جعل المسلحين يهربون منها ولم ينسحبوا الا بعدما فقدوا القدرة على الصمود داخل البلدة وأخذوا معهم الرهائن من الجيش وقوى الامن الداخلي. وفي الوقت الحاضر بات الجيش يتمتع بالامكانات اللازمة بفضل ما قدمته الدول الصديقة الى درجة ان الولايات المتحدة الاميركية بادرت الى سحب ذخائر من مخازنها وحولتها الى الجيش. وقالت المصادر إن لبنان قد اجتاز مبدئياً قطوع عرسال التي هي على طريق العودة الى أحضان الجيش. ووصفت الاتصالات الجارية مع عدد من الدول وخصوصا الخليجية بأنها في مجملها ايجابية، كما ان شبكة الوقاية الدولية حول لبنان لا تزال قائمة.
وفي اطار متصل طرح الوزراء سجعان قزي ورشيد درباس ومحمد المشنوق مسألة خروج مسلحين من مخيمات اللاجئين السوريين، فتقرر الطلب من الهيئات الدولية التي تشرف على هذه المخيمات ان تعالج هذا الوضع الشاذ، على ان يعمل المسؤولون على انشاء مخيمات حدودية لضبط أوضاع اللاجئين.
وفي شأن هبة المليار دولار التي قدمتها السعودية للبنان، أبلغ الرئيس سلام ان البحث جار عن آلية قانونية لكي يبدأ لبنان الاستفادة منها. أما هبة الثلاثة مليارات دولار التي قدمتها السعودية للبنان عبر فرنسا، فأوضح وزير الدفاع سمير مقبل أنها “مجمّدة” حالياً.
وقالت أوساط وزير الداخلية لـ”النهار” إن الاولوية حاليا للأمن، حتى انها تتقدم الانماء، موضحة ان التركيز هو الآن على انقاذ المخطوفين من الجيش وقوى الامن الداخلي ولا تراجع عن استعادتهم بكل الوسائل العسكرية والسياسية وحتى الدينية. ويمكن القول إن عرسال قد أنقذت وان المدنيين فيها هم اليوم في ضمان الجيش وحمايته.
وصرّح الوزير المشنوق لـ”النهار” ان المليار دولار الذي قدمه الملك عبدالله بن عبد العزيز للجيش وقوى الامن “دليل على عقل أستراتيجي لدى جلالته الذي اختار مباشرة ومن دون مواربة دعم الشرعية اللبنانية بكل أجهزتها”.
برّي ومخيمات اللاجئين
وقال رئيس مجلس النواب نبيه بري امام زواره امس: “ما قبل عرسال ليس كما بعدها، واليوم عاد نحو 1800 لاجئ سوري الى بلدهم وهذه مسألة مهمة للغاية وسبق لنا ان طالبنا بعودة اللاجئين الى المناطق الآمنة في سوريا، وبُحَّ صوتنا بالمطالبة بعلاقات ديبلوماسية بين البلدين، فلنترجم ذلك. ومن الآن فصاعدا لا بد من التعامل مع مخيمات اللاجئين بطريقة مختلفة وعدم التساهل في هذا الموضوع بعدما تبينت علاقتها مع المسلحين”. ورأى بري ان الامور في عرسال “لم تنته ويجب اتخاذ الاحتياطات المطلوبة لان ما حصل يمكن ان يتكرر في عرسال وغيرها من المناطق، وعلى الدولة ان تفتح عينيها جيدا على عرسال وان ينتشر الجيش في داخلها”. وأضاف: “تبين ان أعدادا من العرساليين تعاونوا مع المسلحين، وسيأخذ القضاء مجراه ولا غطاء فوق رأس أحد”. وسئل عما تردد من ان المسلحين يسعون الى مبادلة الاسرى العسكريين بسجناء في سجن رومية، فأجاب انه ضد أي شكل من أشكال التفاوض والمقايضة، وخصوصا مع سجناء رومية، قائلا: “ما أخشاه ان نكون أمام اعزاز جديدة”. واستغرب بري عدم تقديم فرنسا اي طلقة من الهبة السعودية البالغة ثلاثة مليارات دولار على رغم انقضاء اشهر عليها “وما أخشاه ان تكون ضغوط وشروط توضع تحت السقف الاسرائيلي بمنع تسليح الجيش بأسلحة متطورة. وأعتقد ان المليار دولار الاخير المقدم من العاهل السعودي هو استدراك من المملكة لكون الهبة الاولى لم تنفّذ بعد”.