في لوحة عرسال كثير من السوريالية. هناك تعقيدات جغرافية وديموغرافية وسياسية وعسكرية، وهناك عُقَدٌ نفسية… طائفية ومذهبية، حتى يصحُّ السؤال: «مَن مع مَن، ومَن ضد مَن»؟ ولكن، بالنسبة إلى «حزب الله» وحليفه السوري، هي المعركة الحتمية التي أينَعت، وقد حان قطافها!
في بقعة النار والدم اللبنانية – السورية الواحدة، «حزب الله» يقاتل «داعش»، ويدعمه الجيش النظامي السوري. و«داعش» تقاتل الجيش اللبناني. وأما السنَّة والمسيحيون والدروز، خصوم «الحزب»، الناظرون إلى ما تفعله «داعش» في الموصل، فيريدون أن يخرج «الحزب» من سوريا لوقف إستجلاب «داعش» والفتنة إلى لبنان.
ولكن ينمو الهمس المسيحي والدرزي، والسنّي أحياناً، في شكل مثير: إنّ وجود ميليشيا لبنانية تقاتل التكفيريين الآتين من سوريا، ليس بالأمر السيّئ، أيّاً كانت طبيعة هذه الميليشيا ومبررات وجودها.
طبعاً، المثالي للمسيحيين والسنّة والشيعة هو أن تتولّى الدولة بمؤسساتها العسكرية والأمنية حماية الجميع، لكنّ ذلك يتحوَّل سراباً يوماً بعد يوم. فالدول تسقط في الشرق الأوسط لمصلحة المجموعات. ولبنان واحدٌ منها. ومن هنا سوريالية الصورة في بقعة عرسال- الهرمل- القلمون.
بالتبسيط، وعلى قاعدة «عدوّ عدوّي هو صديقي»، يبدو «حزب الله» وجيش الرئيس بشّار الأسد والقوى الشرعية اللبنانية في جبهة واحدة ضدّ «داعش». ولا يمكن لعموم اللبنانيين، وللمسيحيين خصوصاً، إلّا أن يكونوا مع الشرعية. وهكذا يرتاح «حزب الله» إلى أخذ الجميع معه في الجبهة، خصوصاً بعد الغطاء الدولي الذي حصل عليه، هو والأسد، لمواجهة إرهاب التنظيمات الرديفة لـ«القاعدة».
وفي ذلك، يريد «الحزب» أن يقنع الجميع الآتي: إنّ «الحرب الإستباقية» على التكفيريين في سوريا هي التي منَعت إنتصارهم وأحبطت تمدُّدَهم إلى لبنان. وتالياً إنّ «الحزب» لا يقاتل دفاعاً عن الشيعة فحسب، بل أيضاً عن السنّة المعتدلين، وعن المسيحيين والدروز، وإنّ كلّ مقاتل يسقط له في هذه المعركة إنما هو، واقعياً، شهيد من أجل الجميع.
وسواء كانت «داعش» صنيعة النظام السوري كما يقول البعض، أو عدوَّة له، أو أنّ هذا النظام يخرقها ويتحكم بها جزئياً، فإنّ عنوان «داعش» وأخواتها هو الورقة الرابحة التي يلعبها النظام وحلفاؤه.
وتأتي حملة «داعش» على مسيحيّي الموصل، بمفاعيلها الدولية لمصلحة محور طهران- الأسد، شبيهة بهجوم «النصرة» على معلولا. فهذا الهجوم كان حاسماً ليكسب النظام معركته الديبلوماسية دولياً، ولا سيما في الملف الكيماوي، تمهيداً لتجديد الولاية.
والآن، تشهد عرسال على وحدة المسار والمصير المذهبي بين لبنان وسوريا. فقد نضجت كلّ عناصر المعركة عند البوابة الشرقية لـ«البقاع الشيعي»، أو البوابة الغربية لمنطقة النفوذ العلوية في سوريا، لا فرق. وبات «حزب الله» في كامل الجهوزية الإستراتيجية لخوض معركته الأخيرة هناك، والتي يريد أن يرتاح بعدها، هو وحليفه السوري.
وحتى اليوم، دفع «الحزب» هناك كثيراً من دم مقاتليه. لكنه، كما كان دائماً، يحاذر الوقوع في منزلق الفتنة المذهبية. وهو يرتاح إلى أنه، وهو في ذروة المعركة، يبدو أقلّ إنخراطاً فيها. فالقرار السياسي تتخذه حكومة يرأسها سنّي قريب من «المستقبل».
أما وزارات الدفاع والداخلية والعدل والإتصالات فـ«الحزب» بعيد منها. وأيّ مواجهة يخوضها الجيش وقوى الأمن في عرسال، سيبدو «الحزب» مجرد داعمٍ لها من الجهة الخلفية لا أكثر، كما كان في عبرا.
ومع إكتمال عناصر المواجهة ومبرّراتها، ثمّة مَن يتوقع معركة ضارية وحاسمة في البقعة المتداخلة لبنانياً وسورياً، والممتدة من عرسال إلى جرودها والقرى الشيعية فالقلمون السورية، تنتهي بسيطرة «الحزب» وحليفه السوري، على جانبَي الحدود… المفقودة أساساً.
وهذا السيناريو يُحضّر منذ بدء المعارك في سوريا. فعرسال عقبة أمام مشروع السيطرة على المنطقة الحدودية المشتركة بين البقاع الشمالي والأرياف السورية. ولطالما كان القرار هو تعطيلها.
إنها «معركة كاملة» بالنسبة إلى المحورين المتقاتلين، و«جريمة كاملة» بالنسبة إلى المدنيّين والعسكريين اللبنانيين على السواء. والمعركة التي بدأت في ناحية «المِصْيَدة» العرسالية هي المِصْيَدة المنصوبة لعرسال وجاراتها البقاعيات ثمناً للمخططات الكبرى.