IMLebanon

عسيري و«ديبلوماسيّة الكتمان».. من بيروت إلى إسلام آباد

للمرة الأولى يعبّر «أبو فيصل» عن شعوره بالضيق عشية مغادرته النهائية بيروت الى باكستان. سفير السعودية علي عواض عسيري الذي عايش طوال خمس سنوات ونيف مرحلة لبنانية واقليمية صعبة، سياسيا وأمنيا، بدا بالأمس حزينا وقد أصابه داء حبّ لبنان في الصميم، لكنّه يؤكد أنه سيعود الى ربوعه مع عائلته كسائح ولا يستبعد أن يشيّد منزلا فيه مستقبلا.

مارس «أبو فيصل» ديبلوماسيّة الكتمان، ومثلما رتّب البيت الباكستاني قبل مغادرته إسلام أباد قبل أعوام، دعّم البيت السنّي اللبناني، سياسيا ودينيا قبل مغادرته بأيام أيضا.

السفير الآتي من عالم الأمن، معروف بباعه الطويل في اتقان الحوار والوساطة الفعالة وملكة التفاوض الطويل النّفس. خلفيته الأمنية جعلته يدرك أن الصمت والكتمان طريق النجاح في المهامّ الصعبة: لم تكن القوى المتحاربة في باكستان تجتمع إبان ولايته طيلة تسعة أعوام إلا في البيت السعودي، وقد حقق عسيري بحنكته الديبلوماسية إنجازا بتبديد العداوة بين برويز مشرّف الذي كان في سدّة الحكم ونواز شريف الذي كان منفيا.

وليست عودته الى باكستان إلا برغبة باكستانية ـ سعودية مشتركة نظرا الى أهمية باكستان كحليف استراتيجي للسعودية، هذا ما يقوله رافضا الخوض في طلب الرئيس الباكستاني مباشرة من ولي العهد السعودي الأمير سلمان إعادة عسيري الى منصبه السابق لما فيه خير البلدين.

يبتسم السفير السعودي حين تواجهه بالمهمة الأخيرة المتمثلة في ترتيب البيت السنّي اللبناني، لكنّ الصمت لا ينقض حقيقة أن الرجل نجح في إعادة تفعيل الديبلوماسية السعودية الإيجابية قبل مغادرته بيروت، وقد تظهّر ذلك جليّا بعودة الخطّ السني المعتدل الممثّل بسعد الحريري وبإعادة دار الفتوى الى الخطّ السعودي التقليدي والدفع في اتجاه التعاطي الإنسيابي السلس بين رجال الدين في ما بينهم وبين زعماء الطائفة من السياسيين.

في المأدبة التي أقامها الرئيس الحريري على شرف المفتي عبد اللطيف دريان، اتصل عسيري شخصيّا بالمفتي محمد رشيد قباني مكرّرا دعوة الحريري إليه للحضور وهكذا كان.. وكان أيضا هو الدافع للقاء ودّي هو الأول منذ سنوات بين الحريري ونجيب ميقاتي.

شجّع عسيري القوى السياسية على انتهاج الاعتدال على طريق مكافحة الإرهاب وينقل عنه عارفوه أنه شجع الحريري على الاتصال برئيس «التيار الوطني الحرّ» ميشال عون لأن في التواصل حفظا للبلد، ونجح من خلال لقاءاته بـ«الجنرال» في الرابية وبالوزير جبران باسيل في دار السفارة، في دفع عون الى مزيد من التوازن في علاقاته السياسية. لم يطلب عسيري يوما معاداة «حزب الله» بل التزام الخطّ السياسي الوسطي.

كذلك نجح في تبديد سوء التفاهم بين شخصيات لبنانية عدة وبين المسؤولين في المملكة ومن بين هؤلاء الجنرال عون ووليد جنبلاط الذي جهد عسيري على تحسين علاقته بالسعودية كونه جزءا أساسيا من النسيج اللبناني.

واعتمد عسيري مبدأ «شعرة معاوية» في تواصله مع جميع الأفرقاء اللبنانيين من دون استثناء، هكذا لم يتردّد إبّان مجيئه في زيارة نائب الأمين العام لـ«حزب الله» الشيخ نعيم قاسم في الضاحية الجنوبية، واستقبل مرارا شخصيات من «حزب الله» أبرزها النائب محمد رعد.

لم يتمسّك سفير السعودية بكتاب «البروتوكول» الصارم، فإذا بزوجته عائشة الشهراني (أم فيصل) تقوم بأنشطة اجتماعية عدّة أبرزها تنظيم حفل استقبال كبير في «الحبتور» جمع أكثر من 450 شخصية نسائية لبنانية وعربية، وهي سابقة لدى حرم سفراء السعودية في الخارج.

ليس صدفة بعد هذا المسار الدبلوماسي الذي أعقب مسارا أمنيا طويلا إذ كان عسيري مسؤولا عن أمن السفارات السعودية في العالم، أن يمنح لقب «معالي السفير» الذي لا يعطى إلا للسفراء المتميزين وهو اليوم محصور بثلاثة سعوديين: عسيري وعادل الجبير سفير المملكة في واشنطن وسفيرها في مصر أحمد عبد العزيز قطان، ويعني هذا اللقب أن صاحبه يبقى مستشارا للملك حتى بعد تقاعده.