بهتت ألوان صور الوزير أشرف ريفي في طرابلس. بدأت تتمدد، فوق أعمدة الإنارة، في اتجاه المنية وعكار لملء الفراغ السياسيّ الكبير. بين ريفي وآخر، صور شباب أحرقوا أنفسهم بنيران الأزمة السورية، ولافتات زرقاء ترحب بـ«عودة» الرئيس سعد الحريري التي اكتشف المستقبليون أنها كانت مجرد زيارة خاطفة لشغل الأنظار عن فضيحة عرسال
على مفترق بلدة ببنين، يقف ثلاثة عسكريين في انتظار «أوتوستوب» يقلّهم إلى ساحة البلدة. يعود هؤلاء إلى قراهم، أسبوعياً، بروايات جديدة عمّا يسمعونه ويرونه في مناطق خدمتهم الملتهبة. على طول المسافة الممتدة من ببنين إلى جبل أكروم، مروراً بفنيدق، تتكرر الصور نفسها لأعلام الجيش اللبناني تجاور صور «الشهداء المجاهدين» على الأرض السورية. التناقض نفسه يتكرّر في أحاديث المستنكرين لذبح العسكريين والمؤيدين، في الوقت نفسه، لـ«الجهاد في سبيل التخلص من النظام السوريّ وهزيمة حزب الله».
في هذه القرية سقط عسكريون في طرابلس العام الماضي في مواجهات متفرقة مع المسلحين، وقتل ثلاثة شبان في سوريا في صفوف المسلحين. غالبية قادة المحاور الطرابلسية وعسكريوها أصولهم من هنا، قبل أن ينزحوا إلى باب التبانة ومقبرة الغرباء وأطراف الزاهرية. حين تصل إلى فنيدق، تتذكّر أنها ودّعت يوماً عسكرياً قضى في معركة نهر البارد، وفي اليوم التالي مقاتلاً سقط في صفوف تنظيم «فتح الإسلام». كثيرون خلال الحرب الأهلية آثروا الحفاظ على البزة العسكرية الرسمية، رغم الشعبية الكبيرة للقوات اللبنانية في بلداتهم وقراهم وتقديماتها السخية في الاستشفاء والتعليم وتنكة البنزين وربطة الخبز. واليوم، تؤثر الأغلبية البقاء في البزّة نفسها ــــ يقول أحد العسكريين ــــ رغم سخاء تقديمات التنظيمات المسلحة والتأييد الكبير الذي تحظى به في بلداتهم وقراهم.
في ببنين، يشير أحد الشبان إلى أعمدة إسمنتية بعيدة تعلو مبنى من ثلاث طبقات، قائلاً إن عددها يذكره بالأشهر التي أمضاها حتى الآن في المؤسسة العسكرية: «كل شهر أصبّ عموداً». يلفت صديقه إلى كثافة العمران وفوضويته حول الشارع الرئيسي، مؤكّداً أن في كل أسرة حالتين مماثلتين على الأقل: «ليس لحم كتافنا فقط من المؤسسة؛ إنما منازلنا أيضاً».
سرعان ما تخلع وجهات النظر بالقرب من ساحة البلدة التي تعتبر الخزان الانتخابي الأكبر لتيار المستقبل في الشمال كل الأقنعة: يقول أحدهم إن الشاب في الثامنة عشرة من عمره أمام ثلاثة خيارات اليوم: الهجرة، أو الانتساب إلى المؤسسات الأمنية، أو الالتحاق بالمجموعات «الجهادية». الخيار الأول يجذب غالبية المتخرجين بعدما أقفلت نهائياً مجالات التوظيف منذ أكثر من خمس سنوات، سواء في القطاع العام الذي تعاني الوزارات المستقبلية فيه من تخمة استثنائية، أو في القطاع الخاص الذي يبحث في كيفية التخلص من موظفيه بدل توفير فرص عمل جديدة. أما المؤسسات الأمنية، فقدرتها على الاستيعاب محدودة، بعكس المجموعات التكفيرية. إلا أن عدد المنتسبين إلى تلك المجموعات ضئيل جداً مقارنة بحاجاتها الكبيرة. ستجد هنا من هم مستعدون لتزويد تلك المجموعات بالمؤن الغذائية والعسكرية، وربما المعلومات الأمنية. لكن قلة قليلة جداً مستعدة لتفجير نفسها يوماً ما. يقول صاحب دكان إنها ليست وظيفة مماثلة للتفرغ في الحزب القومي أو حتى في حزب الله. هنا الموت أقرب. من يفكر بتأمين مستقبله لن يلتحق بـ«المجموعات الجهادية»؛ فقط من يحبّذ القضاء على مستقبله لغايات أسمى يذهب إليها! تحت شجرة زنزلخت حوّلها «ميكانسيان» إلى كاراج لتصليح السيارات تزداد وجهة النظر هذه وضوحاً: من لا يريدون الموت مع التنظيمات المسلحة، رغم تقديماتها المادية ووعودها الدينية وغيره، لا يريدون الموت أيضاً مع الجيش.
كيف يقف آباء ستة شبانالتحقوا أخيراً بالتنظيمات المسلحة إلى جانب والد علي السيّد
ما إن تتجاوز السيارة بلدة قبعيت، عند مطلع الجرد العكاريّ الذي لا يبعد عن الطريق العام أكثر من عشر دقائق، حتى يتغير المشهد بالكامل عما كان عليه من طرابلس. سهول وهضاب خضراء تمتد إلى ما لا نهاية، تتوزع بين غاباتها قرى حرار والقرنة ومشمش وفنيدق وغيرها. بلدات تتذكرها كهرباء لبنان بضع ساعات من يوم إلى آخر، لم يسمع أحد بمطاعمها ولا تعرف وزارة السياحة بوجودها. لا شبكات ري للبساتين الزراعية هنا، ولا شبكات صرف صحّي أو مياه أو أعمدة إرسال أو جدران دعم أو مشاريع تنموية صغيرة. يقيم النازحون السوريون بين بلدة وأخرى مخيمات تبدو أقرب إلى قرى صغيرة، نظراً إلى كثافتها السكانية، وتتكرر فيها صور الدراجات النارية المتهالكة التي يحضرها النازحون معهم. يشير أحد المخاتير إلى أن النازحين هم المصدر الرئيسي للأموال في البلدة، بفضل «الكاش» الذي يوزّع عليهم واستئجارهم المنازل وشرائهم بعض احتياجاتهم الضرورية من دكاكين البلدة. قلّة قليلة فقط من النازحين تقيم في القرى المسيحية أو على أطرافها. فبعض المجالس البلدية فرضت رسوماً مرتفعة على كل من يؤجّر منزله للنازحين، فيما أقفلت التحذيرات السياسية أبواب قرى أخرى مثل شدرا وعندقت والقبيات، و«طفّشت» مداهمات الشرطة البلدية لأمكنة إقامة النازحين وتدقيق لجان الحراسة بهويات معظم من بقوا. يبدو لافتاً أكثر عدم شعور أهالي هذه القرى بوجود خطر كبير داهم، رغم تنظيمهم نسبياً ــــ العونيون جنباً إلى جنب القوات وبعض الأحزاب الأخرى ــــ أعمال الحراسة وغيرها. فما نخشاه، يقول مسؤول التيار الوطني الحر في عكار جيمي جبور، هو «ضربة خاطفة توجع مسيحييّ عكار معنوياً، وليس عملاً تهجيرياً كبيراً، لأن ثقتنا مطلقة بتصدي جيراننا لأي عمل مماثل من جهة، ولمعرفتنا بأن الحالة التكفيرية العكارية أصغر ــــ في حال وجودها أساساً ـــ من أن تقدم على عمل مماثل».
في فنيدق، يكاد يشغل موسم التفاح أهالي البلدة عن كل شيء آخر، بما في ذلك ذبح العسكري علي السيّد. حركة «الضامنين» من جرود الضنية المجاورة كبيرة، والكل مشغول بمعرفة ما إذا كان الاتفاق مع مصر لتصريف الإنتاج سيجدّد. أما «داعش»، فهو مجرد «قناع لحزب الله يريدون بواسطته إخافة الغرب من الثورة السورية وإخضاع المناطق السنية». تكتشف هنا أن لتلفزيون «المستقبل» وقناتي «الجزيرة» و«العربية» جمهوراً عريضاً. لا تكاد تسأل أحدهم أين سمع الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله يقول ما ينسبه إليه، حتى يجيبك بأنه شاهده بعينيه في «برنامج نديم قطيش». لا حاجة إلى تضييع الوقت بسماع مؤتمر صحافي كامل لرئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون. تكفي العبارات التي سيقتطعها قطيش مساءً. قطيش هنا ليس مجرد مزحة؛ هم يتحدثون عنه بجدية. وبجدية أكبر يردّدون ما يقوله نائباهما خالد ضاهر ومعين المرعبي. يلعب ضاهر والمرعبي وحدهما، بالمناسبة، في هذا الملعب، فيما حضور النائب السابق وجيه البعريني يقتصر على المشاركة في مناسبات اجتماعية محدودة، أما قوى 8 آذار، فانسحبت سياسياً وإعلامياً وأمنياً بالكامل من هنا منذ أكثر من ثلاث سنوات. وبناءً عليه، لا يقرأ الناس هنا إلا ما تكتبه صحيفة «المستقبل»، ولن يفكروا، أياً كان الأمر، في سماع تلفزيوني «المنار» أو «أو تي في». أحد وجهاء البلدة يسأل، بجدية، كيف ظهرت «داعش» في جرود القلمون بعد إعلان حزب الله سيطرته على المنطقة. لا يكاد ينهي سؤاله حتى يتوسع في الجواب إقليمياً ليؤكد أن الإيرانيين تخلصوا عبر «داعش» من الصحوات الأميركية ــــ السعودية في العراق. وبناءً على ذلك «لا يخبرنا أحد أن للثورة السورية علاقة بذبح أبنائنا».
يخيّل إلى من يسمعهم بداية أنهم مصابون بالانفصام: كيف يكونون مع الجيش ومع المجموعات المسلحة في الوقت نفسه؟ كيف يقف آباء ستة شبان التحقوا أخيراً بالتنظيمات المسلحة في جرود عرسال يتلقّون العزاء إلى جانب والد علي السيّد؟ لكن سرعان ما تسقط الشعرة الفاصلة بين مواقفهم: هم ــــ من الآخر ــــ مع «الثورة السورية»، سواء أكانت مدنية أم مسلحة أم حتى مزنرة، علمانية أو مذهبية. ويريدون لأبنائهم أن يستمروا في الاسترزاق من المؤسسة العسكرية كأي وظيفة أخرى، ويقدّرون للمؤسسة أفضالها عليهم ويرفعون علمها، لكنهم لا يحمّلون، من بعيد أو قريب، «الثورة السورية» (أو حتى «داعش» و«النصرة» وغيرهما) مسؤولية مقتل أبنائهم. هي، أولاً، مسؤولية قيادة الجيش لزجّها بأبنائهم في هذه المعركة. وثانياً، مسؤولية السلطة السياسية التي لم تلبّ مطالب «الداعشيين» للإفراج عن أبنائهم. اسألوا نديم قطيش! يمكن في حالة أهالي الأسرى أن تتفهم تودّدهم للخاطفين. لكن الخطاب يبقى نفسه بعد ذبح علي السيد وتحرر أهله من هذا التودّد. ها هو مسؤول ما يسمى «الحكومة الانتقالية السورية» في لبنان يزور، برفقة معين المرعبي، آل السيد معزّياً، فيتسابق المعزّون على احتضانه وتقبيله.
لا حصيلة موثوق بها لعدد الشبان الذين رموا بأنفسهم من هذه المرتفعات في الحريق السوريّ. نادراً ما تقع على قرية لم تودّع على الأقل اثنين من شبّانها. تسأل من جنّدهم، وكيف انتقلوا إلى سوريا، ولماذا يؤثرون الموت هناك بدل تفجير أنفسهم هنا؟ فيجيبون بأنهم «استشهدوا في كمين تلكلخ»؛ حتى يخيل إليك أن 2000 مقاتل قضوا في ذلك الكمين لا نحو ثلاثين فقط. لا الأهل يبلّغون عن فقدان أبنائهم ولا الأجهزة الأمنية تسأل. تغيب هذه الأجهزة تماماً. ثمة خط جبلي يربط هذه التلال بتلال الضنية من جهة، ويشق طريقاً إلى عرسال كان يؤمها طوال العامين الماضيين تجار السلاح. ورداً على الشائعات حول وجود مقاتلين ومخيمات تدريب في القمّوعة، تجد جندياً جالساً وحده في العلبة الخشبية خلف عارضة حديدية، يطلب أوراقك الثبوتية ويسأل عن وجهتك قبل أن يفتح لك الطريق.
العكاريون يريدون الاسترزاقمن المؤسسة العسكرية لكنهم مع «الثورة السورية» بلا نقاش
صورة البيئة الحاضنة للتكفيريين بالفكر والسلاح والمطالب لتحرير العسكريين تزداد وضوحاً في جبل أكروم، وتتوضح أكثر فأكثر في وادي خالد حيث تكتمل ملامح بعض المجموعات المسلحة وتتراكم المعلومات الاستخباراتية عن حصول مبايعات، في ظل تنظيم النازحين السوريين لمخيماتهم وترتيبها.
لا شيء يوحي بوجود خطر داهم اليوم. كل ما في الأمر أن قائد الجيش العماد جان قهوجي كان قد تحدث عن وجود مخطط للسيطرة على عكار، انطلاقاً من عرسال، ليصلوا إلى البحر ويعلنوا دولتهم، لكنه لم يتبع روايته هذه بمداهمات جدية لمن يفترض أنها خلايا نائمة في عكار تنتظر الاجتياح «الداعشيّ»؛ إلا إن كان يريد من الرأي العام التصديق أن مقاتلي عرسال كانوا سيستولون وحدهم، ومن دون مساعدة من أحد، على أكثر من ألف كيلومتر مربع. لم يحصل أي تمشيط جويّ وميداني للأحراج التي كان يفترض بالداعشيين أن يسلكوها وفق رواية قائد الجيش، في ظل تجاهل تيار المستقبل المفضوح لملاقاة من يدورون في فلكه لـ«داعش» في منتصف الطريق، عبر مطالبتهم السلطة السياسية وقيادة الجيش بمفاوضة الخاطفين، بدل أن يطالبوا الخاطفين بإطلاق الأسرى. ليس الحديث هنا عن أسر مفجوعة تقول للخاطفين ما يودون سماعه، بل مناطق ووزراء ونواب ومفتون ورؤساء مجالس بلدية وفعاليات متنوعة يقولون لـ«داعش» ما تود سماعه. لم يزعج ما سبق تشييع السيّد وتبعه «داعش» أبداً؛ ثمة من يحرص على ترتيب كل شيء ليلائم مخططها بالكامل.
هل قلت تيار مستقبل؟
تنظيمياً لا شيء اسمه تيار المستقبل في كل هذه القرى. تبدأ اللعبة في ببنين، وتتدحرج صعوداً حتى جبل أكروم ووادي خالد. هنا يقولون: «أنا سنيّ أولاً. خالد ضاهر (أو جماعة إسلامية أو سلفيّ أو فرع معلومات أو غيره) ثانياً. وتيار مستقبل ثالثاً». ما عادت معرفة الحقيقة تجمع كل هذه المكونات والتناقضات العشائرية والعائلية التاريخية في بوتقة واحدة؛ إنما استعداء الشيعة ومقاتلتهم سواء في سوريا أو في لبنان. قسّم تيار المستقبل المنطقة قبل أكثر من ثلاثة أعوام إلى ثلاث تنسيقيات، لكن لا أحد يعرف أسماء المنسقين وماذا يفعلون. ينظم التيار دورة في كرة القدم أو حملة تلقيح للأطفال ضد الحميرة أو احتفالاً بزيارة رئيسه للبنان؛ كأنه جمعية النجدة الشعبية. للوهلة الأولى، يخيل إلى من يرى النائب خالد زهرمان أنه يحاول أن يشرح لأقربائه في فنيدق أن هناك خطراً اسمه «داعش» يهدد تقاليدهم ونمط حياتهم قبل الآخرين، فيما معين المرعبي وخالد ضاهر يغذيان الجمهور بالسمِّ، بأن هناك انفصاماً مستقبلياً. لكن سرعان ما تكتشف أن خالد ضاهر لم يشارك في تشييع علي السيّد لأسباب أمنية ولثقته بأن علاقته الوطيدة بعائلة السيد لن تتأثر أبداً، وخصوصاً أن شقيقه ربيع وغيره من أبطال مجزرة حلبا كانوا حاضرين هناك. وبدل أن يلاحظ الرئيس سعد الحريري اجتهاد زهرمان، طوال أسبوعين، في بلدته فنيدق لتهدئتها، يرسل من الضنية النائب قاسم عبد العزيز لتمثيله. فتتأكد أن ما من انفصام مستقبليّ أبداً؛ لضاهر والمرعبي وريفي وغيرهم من صقور التعبئة المذهبية في المستقبل صوت التيار وآذانه وقلبه وعقله، فيما لا يملك المعتدلون (من سمع بالنائب نضال طعمة مثلاً؟) سوى أن يهمسوا على صعد فردية ضيقة بما يفكرون به.
في وقت يجمع مفتي عكار الشيخ زيد بكار زكريا غالبية رتل السلفيين العكاريين خلفه، ملاقياً «داعش» في منتصف الطريق، عبر مطالبته الحكومة بتحقيق مطالب التنظيم لأن «الروح أغلى من هيبة الدولة، والدول الكبرى والعظمى تفاوض، وأية هيبة ستبقى إذا قطعت رؤوس البقية، ولأن التبرير بأن من في السجن قادة إرهابيون مرفوض».