لا يبالي الزعماء المسيحيون بما يحصل في العراق أو في سوريا أو في المساحات الجغرافية والديموغرافية المعلقة من وطنهم؛ يجيب واحدهم من يسألونه بخوف عمّا سيحصل غداً بأن الأوضاع بألف خير، ما دام هو بخير، وستنتهي كل المشاكل نهائياً في حال انتخابه رئيساً
لا تصل إلى بكفيا ولا إلى معراب والرابية وبكركي التقارير الأمنية والدبلوماسية والصحافية المتلاحقة عن العفريت الذي يحمل المنطقة بين كفيه. هم لا يقرؤون سوى ما يكتب عنهم حصراً. لا يسألون أنفسهم عمّا يقلق كل هذه الدول الأوروبية من «داعش»، ويدفعها إلى استنفار علاقاتها الأمنية والسياسية لحماية مصالحها في الداخل والخارج. لا تستفزهم ألوان الخرائط التي تبيّن تلك المساحة الشاسعة التي اقتطعتها «داعش» لنفسها.
ولا يضعون أنفسهم ــــ ولو ثواني ــــ محل أولئك المكدسين خلف أكياس القلق في الضاحية، ووراء جدران الانتظار، سواء في عكار أو الضنية والمنية وطرابلس وكل أقضية الجنوب والبقاع. لا تكاد تمر أمسية من دون اجتماع سياسيّ لهؤلاء في بهو ما للمزايدة في البذخ والتبذير، من دون أدنى مبالاة بما يزحف نحوهم.
أوروبا تعجز عن إقناع التكفيريين بتحييدها، فيما النائب إيلي ماروني يريد الآن تحييد لبنان. يقول (على شاشة المستقبل صباح أمس) إنه لا حل للأزمة إلا بإعادة إحياء فكرة حياد لبنان. يفكر سعادته ــــ كما يبدو ــــ في الانتقال إلى الرقة لإقناع الخليفة ابراهيم عواد بتحييد لبنان. ولا يلبث النائب نفسه أن يلوّح مع زملائه في 14 آذار بالفزاعة نفسها: إقصاء السنّة في العراق وتهميشهم يؤدي إلى هذه النتيجة. المشكلة في نظر ماروني تكمن في نوري المالكي، لا في «داعش»: في حزب الله الذي يقاتل التكفيريين في سوريا، لا في التكفيريين الذين يفجرون الآمنين في لبنان. من يبرر لـ «داعش» أفعالها في سوريا بحجة ارتكابات النظام السوري يبررها في العراق بحجة أداء المالكي أيضاً. يتسلى هؤلاء، يعلمون أن ما من أحد شعبياً يراهن فعلياً عليهم، فيمضون في ملء الفراغ السياسيّ، مخاطبين أنفسهم. ها هو عضو المكتب السياسي الكتائبي (المسؤول الإعلامي للنائب سامي الجميّل) سيرج داغر، يقرر توفير أجوبة قوية للكتائبيين في «الجدال الدائر حالياً»، ليتبين، بحسب استطلاعاته، أن الجدل الشعبيّ يدور حول: أولاً، دور المجلس النيابي. ثانياً، مهلة تكليف رئيس الحكومة. ثالثاً، عدم إنشاء مجلس شيوخ. رابعاً، بقاء شريحة من الناس من دون كهرباء لأن شريحة مقابلة لا تدفع فواتيرها. وخامساً، عيش المسيحيين في وهم المناصفة؟ أين يعيش داغر؟ ومع من يتجادل؟ لا أحد يعلم.
جواب القوات
للقلق الشعبي: ألغوا الجمهورية الإسلامية تسقط الخلافة!
من سعى إلى عزل رئيس الجمهورية عام 1986 وأسعده التنازل عن صلاحيات الرئاسة عام 1990 وسعى إلى «تفليل» الرئيس قبل انتهاء ولايته الممددة دستورياً أعوام 2005 و2006 و2007، بات يستصعب العيش من دون رئيس الآن. يريد رئيس حزب القوات سمير جعجع «داعش» ورئيساً مسيحياً في الوقت نفسه. اطمئنوا: «ليس للدولة (داعش) أية بنية تنظيمية تتوافق مع وقائع الحياة اليومية، وهي ستنكشف وتنهار إذا وصلت إلى السلطة». فلتقتل من تقتلهم الآن إذاً، يقول موقع القوات الرسمي إنها ستنهار لاحقاً. لا تخافوا من «داعش»: «كل ما تستطيع فعله هو قتل أجسادنا»، خافوا ممن «لديهم مخططات استراتيجية ومدارس خاصة ومراكز دراسات وعلاقات دولية»، إذ ليس لـ «داعش» أي من هذه جميعها! وفي السياق التبريري نفسه، تسأل القوات: «لماذا لا يحق للأكثرية السنية الانتفاض على حكم ديكتاتوي يكفرها سياسياً ومذهبياً ويقصيها عن الحكم في العراق وسوريا ولبنان؟». مع العلم أن السنّة ليسوا أكثرية في العراق (حيث الشيعة هم الأكثرية) ولا في لبنان، والمنتفضون ليسوا أكثرية في العراق ولا في سوريا. وجواب القوات للقلق الشعبي شافٍ ووافٍ: «تزول داعش تلقائياً عندما تزول أسباب قيامها». ألغوا الجمهورية الإسلامية تسقط الخلافة الإسلامية.
أما في الرابية، فيتوقع رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون أن تلغي حركة أمل وأوقاف الطائفة الإسلامية الشيعية وغيرها من المؤسسات الشيعية الإفطارات الرمضانية، لعدم توفير تجمعات شعبية كبيرة يمكن أن تكون أهدافاً للانتحاريين، وتفتح مراكز اقتراع في كل حيّ مدينيّ وبلدة وقرية شيعية لانتخاب رئيس جمهورية مباشرة من الشعب ونواب وغيره، على غرار العراق أو سوريا. مع العلم أن العملية الانتخابية استثنت مناطق العمليات العسكرية هناك، ما يفرض بالتالي استثناء مناطق الجنوب والضاحية والبقاع التي تستهدفها العمليات الانتحارية. تسأله إحدى الصحافيات ما يسأله كل مواطن عن كيفية ضمانه العمليات الانتخابية أمنياً، فيجيبها مازحاً: «نجرب بالمسيحيين وإذا زمطوا نكمل». يتقاتل السنّة والشيعة في المنطقة برمتها على فتات النفوذ، فيما يريدهما العماد عون أن يبصما في لبنان على تفعيل المناصفة وتكريسها. ولا حاجة إلى السؤال. مرة أخرى، تكون المبادرة من دون خريطة طريق سياسية أو شعبية أو حتى إعلامية تضمن تحقيقها نتيجة. مع العلم أن الخطاب العوني كان دائماً مثالياً في وضعه الإصبع على الجرح، لكنه عجز دائماً عن تحقيق ولو قلة قليلة من مضمونه لعدم وجود تخطيط جدي يسبق المبادرة ومتابعة لاحقة. وهي ليست مبادرة بالتالي، بل مجرد خطاب مثاليّ جميل.
الفراغ الشاسع بين الزعماء المسيحيين ومجتمعاتهم لا تعوضه استطلاعات الرأي حول قضايا محددة مسبقاً، ولا نقاشات السياسيين مع ضيوفهم أنفسهم. ثمة تكتلات بشرية تخنقها الأزمة اقتصادياً، وكثيرون أكلت الأزمة أعصابهم، وآخرون يوضّب القلق حقائبهم للسفر أو النزوح من مناطق سكنهم الحالية. ليست أولوية هؤلاء انتخاب رئيس الآن، ولا تحديد خطر من أكبر على المدى البعيد: حزب الله أو «داعش»، ولا تقديم هذا الكتائبي أو غيره فروض الطاعة للراعي السعودي. يريد هؤلاء من يطمئنهم أو يشرح لهم أقله إن كانت عشر سنوات من التأزيم تنتظرهم أو خمس أو سنة واحدة، وما هي خطته لمستقبلهم هم لا مستقبله هو.