لم يعد هناك من شيء ثابت ولا نهائي راسخ في المنطقة العربية. هذا ما يتردد على ألسنة جميع الصحف والخبراء والمراقبين والدوليين. وعندما نصل الى الاستنتاج القاتم السواد فإن مرد ذلك مآل الأحداث وتطورها باتجاه مجهول فنحن ذاهبون نحو المجهول كما يردد السواد الأعظم من الشعوب العربية التي أصبحت الآن تخشى على حاضرها ومستقبلها من سوء المصير.
إن قوى اقليمية وازنة تستند الى قوى دولية أكثر ثقلاً واستئثاراً بالقرارات الدولية الكبرى هي التي تتلاعب بأوضاعنا وهي التي ترسم خريطة المنطقة ونحن غافلون عما تعدّه لنا تماماً كما جرى لنا عام 1916 عندما جرى تقسيم المنطقة طبقاً لما سُمّي يومها اتفاق سايكس بيكو. إن هذه الدولة ونقولها بالفم الملآن ونحن لا نذيع سراً في ذلك هي ايران وبالطبع إسرائيل. ولولا تمسك المملكة العربية السعودية بما تملك من ثقل اقتصادي مالي ومن ديبلوماسية طويلة النفس ورؤيا ثاقبة لمجرى الأحداث وأهمية استراتيجية لكنا الآن قد أصبحت بلداننا العربية ومستقبل شعوبها أشلاء مبعثرة فلا دول عربية ولا كيانات ولا مصلحة ما لأقطارها التي تعصف بها الرياح.
إن النيران المذهبية التي أشعلها النظام الايراني والتي تسترت بالثورة الاسلامية بادئ الأمر (1979) اندفعت باتجاه المنطقة العربية، بعد أن لاقت صدًى وجداراً مرصوصاً في أواسط آسيا حيث المصالح الحيوية لروسيا الجديدة خطاً أحمر لا يجوز المساس به.
لقد قدمت سياسة بوش لأطماع طهران العراق محمية سهلة للهيمنة والابتلاع فإنه كان يدرك تماماً أي مستنقع آخر مميت كان على دميته نور المالكي التخبط فيه. إلا أن العراق بعد الانسحاب الأميركي قد شكل نقطة ارتكاز باستطاعة القيادة الايرانية استخدامها للنفاذ والتواصل اللوجستي مع النظام الأسدي وصولاً الى الشاطئ اللبناني ومقاتلي حزب الله، في الوقت الذي كان يؤجج فيه ويموّل الانشقاق داخل الصف الفلسطيني. لا بل راح يذكي نيران الخلاف المذهبي في الكويت والبحرين وصولاً حتى اليمن والسودان.
وعندما اندلعت الثورة السورية فقد وجدت طهران في حراجة الموقف الأسدي وتدهور أوضاعه فرصة سانحة للسيطرة على دمشق حيث لاقتها الى هناك قوات حزب الله وما استطاع ارساله من دعم عسكري من شتى الفصائل المذهبية المعروفة الهوية والأهداف.
ليس هذا فحسب بل راحت القبضة السورية التي طالما أحكمت الخناق على الحياة السياسية والأمنية والاقتصادية للبنانيين تخلي عملياً مواقعها لمصلحة النفوذ الايراني واملاءات حزب الله الذي ارتد بسلاحه المتطور الى الداخل اللبناني فأصبح هو المرشد الفعلي للسياسة اللبنانية. ولم يدر بالمقابل وفي آن معاً يوم كانت تهديدات أحمدي نجاد في أوجها، في خلد أحد أن المفاوضات الايرانية الأميركية قد وصلت الى خواتيمها المثمرة وأن اسرائيل هي نفسها في حرز حريز.
لقد كان لبشار الأسد ما أراد عندما أطلق فصيل «داعش» الأسود المذهبي، ليطعن وحليفه نور المالكي الثورة السورية في الظهر، وليستخدم نظامه الفاشي مقاتلي حزب الله وقوداً للدفاع عن بقائه في سدة الحكم. بل ذهب أبعد من ذلك عندما راح يستخدم سلاحه الكيماوي في طول سوريا وعرضها ويحول حمص الى مدينة مدمرة تماماً تأميناً لخطه اللوجستي المار في القلمون وصولاً الى آخر ملاذ له في الساحل العلوي.
لقد أتت السياسة المذهبية التي غرق فيها النظام الايراني أكلها وهو الذي أنفق عليها ما يقارب الـ144 مليار دولار، هذا ما عدا الانهاك الاقتصادي والمالي غير المعلن الأكلاف في تجهيز وصيانة وتطوير مفاعلات «ناتانز» و«أراك» و«قم» و«فوردو» تحضيراً منه للسلاح النووي الضروري ليرهب المنطقة العربية بأسرها. بل اقتبس النظام المذهبي الايراني عن الأميركي سياسة الفوضى الخلاقة، فإذا بالاقتتال المذهبي يعم العراق وسوريا ويهدد لبنان نفسه.
إن سياسة الافقار والتجويع ودفع البلاد عندنا نحو هوة الافلاس بل أهم من كل ذلك اشاعة التعطيل لتطاول ليس الرئاسة الأولى فحسب بل شل البرلمان وتعميم الفساد وشراء الضمائر ووسائل الاعلام هي خطة ذكية متقنة الحبك والدراسة لا لتدخل داعش الى ارضنا فحسب بل لندخل نحن أنفسنا في حالة داعشية مخيفة. فخطر داعش ليس عسكرياً وأمنياً فحسب حيث يمسك عملياً بغالبية مناطق سوريا الشرقية ويكتسح وسط العراق من الأنبار فالموصل فنينوى وصولاً الى محافظة صلاح الدين وتكريت، بل هو مشروع نسف وإلغاء فعليين لحدود الأقطار العربية من سوريا الى العراق بل تمزيق خطير لوحدة البلدين كما ارتسمت في سايكس بيكو.
ان ما لا يراه القادة اللبنانيون أن مشروعاً كهذا لا يشكل خطراً أمنياً علينا فحسب بل هو الطريق الطبيعية المباشر لترويج مشاريع المؤتمر التأسيسي وإعادة النظر في الدستور اللبناني، وتقويض لبنان من الداخل. هذا ما يتمناه صاحب الأحلام الرئاسية البائسة ليدمر الهيكل على جميع من فيه.