من جلسة الى اخرى يبقى الاستحقاق الرئاسي معلقاً في الهواء. لا تفاهم اقليمياً يخرجه من دورانه في شغور طويل، ولا الافكار المحلية تساعد افرقاء النزاع على التوصل الى تسوية. الخلاف اولاً ودائماً على الاسم. لكن احداً لا يسعه من الآن رسم ملامح مرحلة الولاية المحتملة
يُدعى مجلس النواب، اليوم، الى الجلسة الحادية عشرة لانتخاب رئيس الجمهورية عبثاً من دون توقع اكتمال النصاب القانوني، سوى تأكيد دخول الشغور الرئاسي شهره الرابع. لم يعد استمرار الشغور يقتصر على ذريعة امتناع فريق عن حضور جلسة الانتخاب والتصويت لأي من المرشحين المتداولين. بل اضحت الافكار المتنقلة بين القيادات بحثاً عن حل بلا جدوى بدورها، تارة بسبب بطء حركتها وطوراً من جراء تسارع الاحداث على نحو يتجاوزها ويلغيها للفور.
منذ اليوم التالي لانعقاد الجلسة الاولى لانتخاب الرئيس في 23 نيسان والنتائج التي افضى اليها اقتراع الدورة الاولى ــــ ولم يكن انقضى الشهر الاول من المهلة الدستورية ــــ وُضع مصير الاستحقاق بين يدي الرئيس ميشال عون والنائب وليد جنبلاط: الاول بسبب اصراره على حقه في الوصول الى المنصب بصفته زعيم الكتلة المسيحية الكبرى في مجلس النواب، والثاني لامتلاكه مفتاح نصاب الاقتراع في الدورة الثانية.
لم يكن في الامكان، بأي منهما دون الآخر، اجراء الاستحقاق من دون مشاركة ذلك الآخر في جلسة الانعقاد كي يكتمل النصاب السياسي قبل النصاب الحسابي وهو 86 صوتاً لمباشرة اقتراع الدورة الثانية. الا ان ليس في الامكان، في المقابل، اقناع اي منهما على الاقل بالتخلي عن الموقع الذي اتخذه في الاستحقاق، وعن الحجة المزدوجة المضمون التي يتمسك بها: لانه زعيم الكتلة المسيحية، يريد عون الرئاسة له حتماً بصفته الاقوى في طائفته اقتداء بحالي رئاسة مجلس النواب ورئاسة الحكومة. ولانه عالق بين مرشحين لا يريد اياً منهما للمنصب، وهما عون ورئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، يصر جنبلاط على ترشيح النائب هنري حلو ولا يعطي فارق اصوات نوابه ــــ وهو فارق الفوز ــــ الا لمرشح التسوية الذي يحمله على التخلي عندئذ عن حلو.
عون لجنبلاط:توقفت عن ان أكون صانع رؤساء. أريد ان اكون الرئيس
في 22 نيسان، عشية الجلسة الاولى لانتخاب الرئيس، رشح جنبلاط حلو لتثبيت توازن بين مرشحي قوى 8 و14 آذار بما يحول دون فوز اي منهما في الدورة الثانية من الاقتراع، وبما يجعله مذ ذاك لغز الاستحقاق. طُرح عليه اولاً اسم النائب فؤاد السعد بتزكية من النائب اكرم شهيب، بحجة زعامة مارونية تاريخية لعائلته في قلب جبل لبنان في عين تراز تبدأ مع عمّ ابيه الرئيس حبيب باشا السعد. الا ان جنبلاط تجاهل الاسم، وفاضل بين حلو والنائب ايلي عون، ثم اختار الاول بسبب الوضع الصحي للثاني. بفضل ترشّح حلو ــــ من غير ان يصدّق في اي لحظة انه هو الرئيس المقبل ــــ سهل على الزعيم الدرزي الذهاب الى جلسات انتخاب رئيس الجمهورية، واتاح له مبرراً منطقياً مفاده ان انعقاد الجلسة بلا تسوية مسبقة يعني اقتراعه لمرشحه فقط. بموقفه هذا، تجنّب في جلسة 23 نيسان التصويت بورقة بيضاء لئلا يُحسب على قوى 8 آذار، ولانه لا يُسرّ في كل حال بمرشح قوى 14 آذار. فإذا الرجل قادر على منع انتخاب مرشحي الفريقين.
في الاسابيع الاخيرة، مسكوناً بهاجس القلق من تدهور الوضع الامني وتداعياته على الداخل، حمل جنبلاط بضعة افكار جال بها على نظرائه بحثاً عن مخرج. سبقت تحركه هذا حرب عرسال، وخصوصاً اللقاءين المهمين اللذين عقدهما مع الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في 27 تموز، ورئيس تكتل التغيير والاصلاح في 6 آب. بيد ان حرب عرسال التي توسطت الموعدين اطاحت، منذ 2 آب، جزئياً تحركه. لكن من دون اعطابه.
بدعوى ان المرحلة مقبلة على تدهور امني ما يقتضي تعزيز دور الجيش وحمايته وتوفير الغطاء السياسي الكامل له، حمل الزعيم الدرزي الى نصرالله اقتراحاً قضى بالتفاهم على مرحلة انتقالية لسنة او سنتين، تتولى ادارة الاستقرار بشقيه الامني والسياسي ريثما يتضح مصير المنطقة، ابانها تجري انتخابات نيابية ثم تذهب البلاد الى انتخابات رئاسية جديدة. في المرحلة الانتقالية، ترسم ملامح الادارة الداخلية على مستوى اعادة بناء المؤسسات بما فيها تعيين قائد جديد للجيش، ينبثق من حكومة ليس لها ان تعمل سوى اطلاق يد المؤسسة العسكرية في درء الاخطار عن البلاد، واخراج الجيش من معادلة انه اضحى مكسر العصا.
ناقش جنبلاط الاقتراح طويلا مع مسؤول سابق كان قناة التواصل المباشر مع نصرالله الى حين تحديد الموعد، والتقى الرجلان على ضرورة تشجيع مرحلة رئاسية انتقالية دونما الخوض في ذلك الحين في الاسماء. الا ان مدخلها اوجب استكشاف استعداد الامين العام لحزب الله الطلب من عون الانسحاب من الاستحقاق الرئاسي.
كان رد نصرالله: في المرة الماضية (2008) اقنعنا العماد عون بالانسحاب لمصلحة الرئيس سليمان، وكان ديناً كبيراً تحملناه. ولا نزال الى اليوم نسدده. لن نكرر الامر ما لم يقرر هو ماذا يريد ان يفعل.
عندما طرح جنبلاط فكرة المرحلة الانتقالية، عقب نصرالله بعدم ممانعة الحزب شرط موافقة عون اولاً. من دونها لا يمكن المضي فيه.
انطوى الجواب على موافقة مبدئية، لكن مشروطة.
سأل جنبلاط عن سبل اقناع الرئيس نبيه بري، وله مرشحه.
اخذ نصرالله على عاتقه اقناع رئيس المجلس في حال وافق عون.
ذهب الزعيم الدرزي بعد ايام الى الجنرال يفاتحه في الاقتراح. عندما خرج من عنده بدا متفائلاً، وأسرّ في ما بعد الى احد القريبين منه: مرتاح اكثر مما كنت اتوقع.
بعض ما سمعه اراحه، والبعض الآخر رجحه.
لم يكن عون مستعداً لسماع اسم قائد الجيش العماد جان قهوجي في اي حال او احتمال او دور، في القيادة او في الرئاسة. أشعر بذلك محدثه بالانتقال الى صفحة اخرى من الحوار بقوله: توقفت عن ان اكون صانع رؤساء. اريد ان اكون الرئيس.
بيد انه بدا منفتحاً، في الظاهر على الاقل، على ولوج مرحلة انتقالية يصير الى بلورة ملامحها، ملاقياً جنبلاط في قلقه على الوضع الامني والتهديد التكفيري للداخل اللبناني.